سياسات السوق التفضيلية

21:38 مساء
قراءة 4 دقائق

روبرت رايخ *

كما أقول دوماً، «السوق الحرة ليست أكثر من مجموعة من القواعد التي وضعتها الحكومة وفرضتها». والسؤال الحقيقي الذي يختبئ وراء منحنيات العرض والطلب المحايدة المفترضة في كتب الاقتصاد المدرسية، هو ما إذا كان النظام المالي في الأساس، يعمل على تحسين حياة أغلب الناس، أم تنمية ثروات الأغنياء فقط؟ ومن المؤسف أن الإجابة من وجهة نظري هي الأخيرة.

إن السوق تتبع سياسات تفضيلية دوماً، بسبب كل الأموال التي تتدفق إلى عالم السياسة. والأطراف المفضلة هي مصادر الأموال الضخمة من شركات كبرى، ورؤوس أموال.

لقد رأيت تدفق الأموال إلى السياسة، في أواخر السبعينيات، يتحول إلى جدول صغير بحلول الثمانينيات، ونهر ضخم مطلع التسعينيات، ثم فيضان عارم بحلول العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فمحيط شاسع بحلول العقد الثاني، ومنذ 2020 حتى اليوم، أخذ التدفق شكل تسونامي.

وفي قرار مثير للجدل، يسمح للأفراد الأثرياء والشركات برشوة السياسيين بشكل أساسي، وجهت المحكمة العليا أحدث ضربة لقانون مكافحة الفساد الفيدرالي، بإلغائها حكماً يقضي بإدانة عمدة سابق في ولاية إنديانا، بتهمة الرشوة. مشيرة إلى أن «الإكراميات»، أو الهدايا والمدفوعات، التي يتلقاها المسؤول بعد تنفيذ مهامه ليست «رشى» من الناحية الفنية، وبالتالي هي قانونية.

وقالت المحكمة، إن الرشى لا تأخذ معناها الحقيقي إلا عندما تتم قبل الفعل الرسمي المطلوب. وبذلك واصلت جهودها الجارية لإضفاء الشرعية على الفساد في المؤسسات الرسمية، باستخدام المنطق الأكثر ضعفاً لتجريد القوانين الفيدرالية لمكافحة الفساد من أي معنى.

لقد رأيت كيف حوّل استخدام الرشوة لمصلحة الشركات الكبرى والأثرياء، خيبة أمل العمال الأمريكيين في تسعينيات القرن العشرين، إلى إحباط وغضب، بخاصة بعد إنقاذ أكبر البنوك في الأزمة المالية لعام 2008.

وفي ما يلي عينة من الكيفية التي تغيرت بها السوق بسبب تدفق الأموال إلى زواريب السياسة:

لقد شجعت اتفاقيات التجارة الشركات على الاستعانة بمصادر خارجية للوظائف، لحماية الملكية الفكرية والأصول المالية للشركات، وليس على حساب وظائف وأجور الأشخاص الذين عملوا لمصلحة تلك الشركات.

وتمزقت شبكات الأمان التي نشأت بعد الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن العشرين، إلى جانب العقد الاجتماعي الضمني الذي ينص على أن نجاح أي شركة، يعني نجاح عمالها أيضاً. ووجد الموظفون بدوام كامل، ممن أمضوا عقوداً من الزمن في العمل لدى إحدى الشركات، أنفسهم بلا عمل بين عشية وضحاها، وبلا مكافأة نهاية خدمة، ولا مساعدة في العثور على وظيفة أخرى، أو تأمين صحي.

كما تقلصت مزايا العمل، وانخفضت نسبة العمال الذين يحصلون على معاش تقاعدي مرتبط بوظائفهم من أكثر من النصف بقليل في عام 1979، إلى أقل من 35%. وخُفضت أحجام النقابات العمالية، وتراجعت حصتها من القوة العاملة الأمريكية من 35% من إجمالي العاملين في القطاع الخاص في الخمسينيات، إلى 6% فقط، اليوم.

قبل خمسين عاماً، عندما كانت «جنرال موتورز» أكبر جهة توظيف في أمريكا، كان متوسط أجر العامل لديها 35 دولاراً في الساعة بالقيمة الحالية. اليوم، تمنح أكبر جهة توظيف في أمريكا «وول مارت»، موظفيها الجدد نحو 9 دولارات فقط،في الساعة. مع العلم أن موظف «جنرال موتورز» آنذاك، لم يكن أفضل تعليماً، أو تحفيزاً من نظيره في «وول مارت» اليوم.

في غضون ذلك، مكّن «تحرير التمويل» غزاة الشركات، أو من يُطلق عليهم اسم «النشطاء المساهمين»، و«مديري الأسهم الخاصة»، من إرغام الرؤساء التنفيذيين على التخلي عن جميع أصحاب المصلحة الآخرين، وسمح للمصرفيين الذين يتقاضون أجوراً عالية بالاستيلاء على مبالغ ضخمة. في المقابل، عرّض أغلب الأمريكيين لمخاطر اقتصادية كبيرة، وهو أمرٌ بلغ ذروته في الأزمة المالية العالمية، وعمليات إنقاذ ممولة من دافعي الضرائب لشركات «وول ستريت» الكبرى.

وأيضاً، تم توسيع وتمديد حقوق الملكية الفكرية، من براءات اختراع وعلامات تجارية وحقوق الطبع والنشر، ما يسمح لشركات الأدوية والتكنولوجيا الفائقة والتكنولوجيا الحيوية والترفيه بمواصلة احتكاراتها لفترة أطول، وبالتالي ارتفاع الأسعار للمستهلكين الأمريكيين، بما فيها أعلى تكاليف أدوية لأي دولة متقدمة.

كما أدى تدفق الأموال داخل الأروقة السياسية إلى تخفيف قوانين مكافحة الاحتكار، ما ضاعف أرباح شركات مثل «مونسانتو»، التي تحدد أسعار معظم بذور الذرة في البلاد؛ وعدد من عمالقة التقنية ذات القيمة السوقية الفائقة، مثل «أمازون»، و«فيسبوك»، و«أبل»، و«غوغل»؛ إضافة إلى أكبر بنوك «وول ستريت»، من بين شركات أخرى.

وساهم التدفق كذلك في تخفيف قوانين الإفلاس للشركات الكبيرة، وسمح لها بتمزيق عقود العمل، والتهديد بالإغلاق ما لم تحصل على تنازلات في الأجور، وترك العمال والمجتمعات المحلية تائهين. لكن في المقابل، لم تشمل قوانين الإفلاس المعدلة هذه أصحاب المساكن الذين يدينون لمنازلهم بأكثر من قيمتها الحقيقية، أو إلى الخريجين المثقلين بديون الطلاب.

لم تحدث هذه، وآلاف القرارات السياسية الأخرى من تلقاء نفسها. بل تم دفعها من قبل النخب الغنية في «وول ستريت»، وكبار المديرين التنفيذيين للشركات، الذين قدموا تبرعات ضخمة للسياسيين من كلا الجانبين، لضمان احترام رغباتهم، والحصول على المزيد من المحاباة القانونية التي تزيد ثرواتهم وسلطتهم.

* أستاذ السياسة العامة في جامعة كاليفورنيا في بيركلي «أوراسيا ريفيو»

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/6zdjhakm

عن الكاتب

أستاذ السياسة العامة في جامعة كاليفورنيا في بيركلي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"