عادي
في شاعرية البصر

المبسوط الشنقيطي.. الحرف العربي يحاور الصحراء

14:22 مساء
قراءة 3 دقائق

الشارقة: جاكاتي الشيخ

نظراً لوجودها في المنطقة المغاربية، كانت موريتانيا من بين الدول العربية التي شكّلت الحضارة الإسلامية في الأندلس أحد أهم روافدها الثقافية، ومن بين المجالات التي تعكس ذلك فن الخط العربي، خاصة خط المبسوط، الذي امتدّ ليصل إلى هذه الأرض، فكان له دور مشهود في جمالية المخطوطات الشنقيطية النفيسة، ومن بين المبدعين الموريتانيين الذين يشتغلون على إحياء هذا الخط الدكتور محمد الأمين السملالي.

*امتداد
اختار السملالي للوحته الدعاء المأثور: «اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنَّا»، وكتبها بالمبسوط الشنقيطي، الذي يعتبر امتداداً لخط المبسوط المغربي، الذي يعتبر بدوره امتداداً للخط الكوفي الأندلسي، ولكن المبسوط الشنقيطي يحتفظ بسمات واضحة يدركها المتخصصون، تجعله أكثر اتصالاً بالنمط الأندلسي الأصلي، ويتجلّى ذلك في المخطوطات الموريتانية القديمة التي استُخدمت فيها أساليب فنية خاصة، طورها النساخون وطلاب «المحاظر» الشنقيطية في كتابة المصاحف، حيث يتفنن النساخون المهرة في صياغتها بأساليب فنية متنوعة، تشترك في حرصها على جمالية الأسلوب الخطي وإبهاره، وهو ما يستلهم منه السملالي أسلوبه الخطي الخاص، الذي يعتمد في شكله اللوح الموريتاني كثيمة ثابتة، يقدمها في تكوينات متنوعة لخط المبسوط الشنقيطي ممزوجاً بخصائص الخط الكوفي.
والنص الذي اختاره السملالي للوحته دعاءٌ يتوجه فيه المسلمون بالتضرع إلى الله، وهو مستوحى من الحديث الشريف الوارد عن عائشة رضي الله عنها، الذي تقول فيه: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، بِمَ أَدْعُو؟ قَالَ: قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي»، ففيه رجاء للعفو الدال على مغفرة ذنوب العبد من ربّه، فالله جل جلاله عفُوٌّ يحب العفو، وهو أرحم الراحمين، وقد قال في محكم كتابه «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لكُم»، فصار هذا الدعاء مألوفاً بصيغة الجمع كما نراه في هذه اللوحة.
*إتقان
يتضح في تصميم متن هذه اللوحة الخطية اتخاذه شكلَ اللوح «المحظري» المستطيل ذي الرأس نصف البيضوي، وقد كتب السملالي «اللهم» في الجزء الذي يتحول فيه المستطيل إلى الرأس البيضوي، ليشير إلى أن اللوحة تتكئ في كل عناصر تشكُّلها على رجاء الله ودعائه، ثم كتب في أعلى مستوى لها «إنك» لأن ضمير الكاف المتصل هنا يشير إلى المرجو، فمن عادة الرجاء أن يكون موجهاً إلى من هو أعلى وهو موجه هنا إلى الله جل في عُلاه، ثم كتب «عفوٌّ» تحت «اللهم» مباشرة، وكتب تحتها «تحب» و«العفو» للتأكيد على عفو الله وحبه للمغفرة بالرحمة، والمتجلّي في العديد من آياته، ودعوة النبي الكريم لرجائه ذلك العفو، وقد خصص لتلك الكلمات الثلاث مساحة بارزة في قلب اللوحة، للإشارة إلى عظم شأن عفو الله، ثم أتبعها بـ «فاعف» التي جعلها قاعدة للشكل، ليوحي إلى أن هذا الرجاء هو الذي ترتكز عليه اللوحة في تضرُّع العبد لربّه، بينما كتب «عنا» منطلقاً في خطها من طرف الفاء في «فاعف» حتى جعل ألفها خطاً أفقياً مستقيماً يصل الجزء المستطيل للشكل بالجزء البيضوي تحت «اللهم»، ليشير إلى أن المتضرعين بهذا الدعاء يريدون منه أن يصل إلى من يُرجى منه استجابته.
لقد نفَّذ السملالي لوحته الفنية بشكل متقن، وبتصميم مميز معتمداً في كل ذلك على سمات خط المبسوط الشنقيطي الجميل، الذي نَما في الصحراء الموريتانية، وهو ما ترمز إليه ألوان هذه اللوحة في خلفيتها الصفراء ولون خطها الأخضر.
ولد السملالي سنة 1981، واهتم مُبكراً بممارسة الخط العربي وتجويده، وظل يتدرب عليه، ويعرض محاولاته الأولى على أساتذته بالتزامن مع دراسته في النظام «المحظري» التقليدي في موريتانيا، الذي حصل منه على عدة شهادات، من بينها إجازة في حفظ القرآن وتجويده، وأخرى في القراءات السبع، وثالثة في العلوم الشرعية واللغوية، ليدخل التعليم النظامي ويحصل منه على شهادة الإجازة في الأدب بعد تحقيقه الرتبة الأولى في قسم اللغة العربية بجامعة نواكشوط، والماجستير في علم القراءات من جامعة محمد الخامس بالرباط، ثم الدكتوراه في نفس المجال من ذات الجامعة، أنجز العديد من الكتب والبحوث والدراسات، واشتغل على تدقيق وتحرير عشرات المؤلفات، وقدم الكثير من المحاضرات والدورات التكوينية في المتون العلمية واللغة والخط العربي، الذي أبدع فيه مجموعة من اللوحات المميزة، وله إسهامات عديدة في المهرجانات والملتقيات الخطيّة، كما أقام عدة معارض فنية وشارك في عدة تظاهرات في المجال.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mrx6cpym

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"