البديل عن مأزق طباعة النقود بدون رصيد

22:22 مساء
قراءة 4 دقائق

د. محمد الصياد

قليلون هم الاقتصاديون الأمريكيون – من الوسطين النخبوي الحاكم والآخر الرصين، النقدي الموضوعي – الذين يجرؤون على مكاشفة الطبقة السياسية الأمريكية الحاكمة بالخطة أ «Plan A» المطلوب إنفاذها للتخلص مما بدأ بعضهم يصفه بـ«دوامة الديون» (Debt spiral) التي أوقعت أمريكا نفسها فيها وأدمنتها، حتى تخطى إجمالي الدين الحكومي الأمريكي 35 تريليون دولار. إذ تواظب الحكومة على إصدار سندات لبيعها على الشركات والأثرياء في الداخل وحكومات بلدان الوفرة في الخارج، لتمويل الفجوة بين ما تجبيه (الحكومة) من إيرادات وما تنفقه على حاجاتها المدنية والحربية المتنامية. وهي عملية باتت كلفتها باهظة للغاية (بلغت قيمة الفوائد التي دفعتها الحكومة لحملة سنداتها، في الربع الأخير فقط من عام 2023، تريليون دولار، أي 4 تريليونات دولار في السنة)، ومُقعِدة للاقتصاد.
فكيف تُحل هذه المسألة الرياضية، العويصة محاسبياً (وفقاً لحساب الأرباح والخسائر والميزانية العمومية، في المحاسبة القانونية)؟ الحل المتاح أمام الحكومة الأمريكية، هو زيادة الضرائب، لكن هذا سيؤثر سلباً في نمو إجمالي الناتج المحلي على المدى الطويل (بحسبان تقلص الكتلة النقدية الموجهة للاستثمار التراكمي، بتراجع مغريات التوسع الاستثماري، فضلاً عن تراجع الإنتاجية). الطريق «السهل» الثاني، يتمثل في إجراء خفض حاد في التزامات الإنفاق الحكومية. وهو تدبير غير شعبي، سوف يفاقم من تدهور سمعة وشعبية الطبقة السياسية (من الحزبين الديمقراطي والجمهوري) التي تتقاسم السلطة والثروة.
وأما الخيار الثالث المتاح، فهو بطبيعة الحال، الاقتراض. وهذا هو بالضبط ما تفعله الحكومات الأمريكية المتعاقبة. وهو الخيار الذي أوقع الاقتصاد الأمريكي في هذه الورطة (تمويل الإنفاق الجاري والاستثماري والحربي بالاستدانة عبر الإصدارات المستندية المتوالية). هذا الخيار لم يعد متاحاً بنفس السهولة والأريحية التي كان عليها طوال السنوات السابقة (على الأقل إلى ما قبل الأزمة المالية في 2008). الإصدارات تتم اليوم في بيئة ترتفع فيها أسعار الفائدة. وقريباً سوف يطالب المستثمرون في السندات الأمريكية، من جميع أنحاء العالم، بمعدلات عائد أعلى مقابل تزايد مخاطر التخلف عن السداد «Default». لا أحد يستطيع الجزم بموعد حدوث ذلك، لكن تراجع الطلب حالياً على سندات الخزانة الأمريكية، يعد بمثابة ناقوس خطر. لذا يمكن القول بأن هذا (تمويل العجز بمواصلة الاستدانة)، ليس هو الحل الأنسب للخروج من هذا المأزق.
المقلق، أن هناك دائماً الخطة البديلة أو الخطة باء «Plan B»، وهي خطة جاهزة يتم تسريب أفكارها علناً بين الحين والآخر من قبل مراكز الأبحاث ووسائط الإعلام السائدة. وما هذه الخطة سوى الحرب العالمية. على أساس أنه عندما تكون هناك حرب عالمية، يكون مصير الديون الشطب. فلن يتعين على الولايات المتحدة تسديد أي شيء للصين ولغيرها من الدول الدائنة حين يموت الملايين ويحيق الدمار بالبلدان. حينها لن يكون لموضوع الديون أي موقع من الإعراب فيما الناس مشغولون بتدبير قوت يومهم. هذا خيار آمن ومناسب جداً للولايات المتحدة، كما يعتقد منظّرو الخطة باء. فجغرافية الولايات المتحدة تؤمن لها حصانة ضد وصول العمليات الحربية لأراضيها، تماماً كما حدث في الحرب العالمية الثانية، حين اشتعل العالم كله، وسُوّي بالأرض، باستثناء الولايات المتحدة. حتى أن الاقتصاد الأمريكي نما خلال الحرب العالمية الثانية، مثلما ينمو الاقتصاد الروسي الآن، بسبب تصنيع الأسلحة. بعد الحرب، حين يفقد العالم كل شيء، سيكون لدى الولايات المتحدة الكثير من النفط والقمح اللذين ستضطر بلدان العالم لشرائهما منها. وقتها لن يكون لدى هذه الدول ما تدفعه لقاء مشترياتها، لذا سوف تدفع بما تبقى لديها من أصول وممتلكات ويُسجّل الباقي في رصيد ديونها للولايات المتحدة. بهذه الطريقة ينتهي الأمر بامتلاك الولايات المتحدة للعالم كله مرة أخرى. غير أن منغصاً «صغيراً» يعكر صفو مثل هذا «العصف الذهني» الفالت، وهو احتمال أن تتحول الحرب إلى نووية. والخطر الآخر هو أن تخسر الولايات المتحدة و«حلفاؤها» الحرب التقليدية.
تتبقى فقط مسألة البحث عن سبب وقوع الحرب؟ فلابد أن يكون هناك سبب ما لاندلاعها، وهذا يمكن تدبره بسهولة أحياناً وبصعوبة أحياناً أخرى. يمكن مثلاً التوسع في سردية تلقيم الناس وتلقينهم بأنهم فقدوا وظائفهم بسبب الصين، ومنها قدرتها الصناعية الفائضة، والإبادة الجماعية لأقلية الأيغور المسلمة في الصين. لكن تايوان تبدو أكثر إغراءً وأكثر «وجاهة» لتسويق سبب نشوب الحرب. لكن المشكلة أن الصين فطنت للمصيدة ولم تدخلها ولن تدخلها على الأرجح. حتى تايوان باتت تتهيب من مثل هذا الانزلاق. لذلك حلّت الفلبين مكانها. جديرٌ ذكره، أن «القدرة الصناعية الفائضة» (China’s industrial overcapacity)، هي الرواية الجديدة التي بدأت تتحدث عنها أمريكا الرسمية، كما هو حال ما أوردته المستشارة الاقتصادية للبيت الأبيض لايل برينارد «Lael Brainard» في بيان خاص صادر باسم البيت الأبيض يوم 16 مايو 2024، تحت عنوان ملاحظات حول الاستجابة لتحديات القدرة الصناعية الفائضة في الصين. ومما جاء فيه أن القدرة الصناعية الفائضة في الصين تعمل على تقويض الابتكار القائم على السوق والمنافسة، فضلاً عن قدرة عمالنا ومرونة سلسلة التوريد.
*خبير بحريني في العلاقات الاقتصادية الدولية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/543tw2cb

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"