مجدداً.. أمريكا تطبع أم تستدين؟

21:51 مساء
قراءة 3 دقائق

د. محمد الصياد*

يذهب بعض الاقتصاديين الأمريكيين المعروفين، إلى أن حكومة الولايات المتحدة لا تطبع النقود، وإلا لكان التضخم في أمريكا وصل إلى أرقام فلكية. ما تفعله حكومة الولايات المتحدة هو بيع السندات، أي استدانة المال. حيث تشتري الحكومات الأجنبية وشركات أمريكا الكبرى، وأثرياؤها، هذه السندات مقابل الحصول على عوائد هذه السندات. وهناك في الواقع نوع من التخادم بين السلطات الأمريكية الحاكمة، لاسيما السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، وبين الشركات الكبرى، حيث تمتنع السلطات عن فرض ضرائب عالية على الشركات مقابل إقبال الأخيرة على الاكتتاب المستمر (شراء) في سندات الخزينة الأمريكية، والحصول على عوائد هذه السندات.

وقد ذكرنا سابقا، أن الحكومة الأمريكية حين لا تجد ما يكفي من المشترين لسنداتها، وهو اتجاه بدأ بعد الأزمة المالية الأمريكية (تحوّلت إلى أزمة عالمية) في عام 2008، فإن الحكومة الأمريكية لن تعمد لخفض إنفاقها لتغطية عجوزاتها، وإنما سيتكفل مجلس الاحتياطي الفيدرالي (الذي يُفترَض أنه البنك المركزي الأمريكي)، بشراء هذه السندات حين لا تجد من يشتريها. وبما أن الفيدرالي لا يملك في واقع الأمر المال لشراء هذه السندات، فإنه يقوم بطباعتها. الحكومة إذن، ممثلة في وزارة خزانتها التي تصدر السندات، لا تطبع النقود، وإنما الاحتياطي هو الذي يفعل. ولأن الاحتياطي الفيدرالي ليس حكومياً، وإنما هو ملكية خاصة، فإن الحكومة الأمريكية لا تتحمل فيض النقود التي يقذف بها الاحتياطي، يمنة ويسرى.

طباعة النقود من قبل حكومة الولايات المتحدة عبر الاحتياطي الفيدرالي، تؤدي إلى التضخم الذي يؤدي بدوره إلى ارتفاع أسعار الفائدة، ما يفضي اقتصادياً، إلى تراجع الإنتاج، وتناقص الجباية الضريبية، ما يقود إلى طباعة المزيد من الأموال، وبالتالي ارتفاع التضخم. هي إذن، دورة نزولية يزيد طينتها بلّة عدم خفض الحكومة لإنفاقها، وإنما زيادته. الفرضية الاقتصادية المنطقية لكل هذا هي التضخم المفرط، وانهيار الدولار. فلن يرغب أحد في شراء ديون الولايات المتحدة بعد الآن، لأن الولايات المتحدة تتصرف مالياً بصورة غير مسؤولة، أي أن الثقة بدأت تضعف. لكن كل ذلك لا يجبر أمريكا على الإقلاع عن عادتها الإنفاقية المدمرة.

لكن، كيف تفعل الحكومة (الأمريكية) ذلك؟ هي لا تطبع النقود بصورة مادية، كل ما في الأمر أن بنك الاحتياطي الفيدرالي، بما يتمتع به، كبنك مركزي (مفترض)، من امتياز حصري فريد من نوعه في خلق الأموال، يقوم، حين استخدامه لما يسمى التيسير الكمي (Quantitative easing) بشراء الأوراق المالية مثل سندات الخزانة. وهو يفعل ذلك عن طريق إنشاء احتياطيات مصرفية من لا شيء. إنها ببساطة عملية رقمية لخلق النقود. إذ يكفي أن يعلن عن نيته شراء الأوراق المالية والمبلغ الذي ينوي إنفاقه على شرائها، فيقوم المتعاملون الأساسيون معه، وهم هنا البنوك الوسيطة الكبيرة، بشراء هذه الأوراق المالية في السوق المفتوحة نيابة عن بنك الاحتياطي الفيدرالي. وبمجرد إتمام عملية الشراء، يضيف بنك الاحتياطي الفيدرالي الأموال التي تم إنشاؤها حديثاً إلى الحسابات الاحتياطية للمتعاملين الأساسيين، ويضع سندات الخزانة في ميزانيته العمومية. هذا الاعتماد سيزيد من إجمالي احتياطيات هذه البنوك، ما يؤدي إلى ضخ السيولة مباشرة في النظام المصرفي.

لذا، فإن الميزانية العمومية للاحتياطي الفيدرالي تعبّر عن مقدار الأموال التي تمت طباعتها (إلكترونياً). في سنة الأزمة المالية (2008)، حدثت قفزة في الطباعة، تضاعفت 3 مرات تقريباً، إبان جائحة كورونا. لتتراجع قليلاً في العامين الماضيين، بفضل ارتفاع أسعار الفائدة، حيث تؤدي الفائدة المرتفعة إلى الإقبال على شراء السندات الأمريكية، فلا يضطر بنك الاحتياطي الفيدرالي في هذه الحالة لطباعة النقود لشراء سندات الخزانة الأمريكية. بل صار بوسعه هو نفسه بيع بعضها. لكن هذا سيفاقم المشكلة، لأن ارتفاع أسعار الفائدة يؤدي إلى ركود الاقتصاد لأن الجميع يشترون سندات الخزانة الأمريكية بدلاً من الاستثمار في الشركات. فيصبح كل شيء أكثر كلفة. ما يعني أنه يتعين على الولايات المتحدة اقتراض المزيد في ضوء انخفاض عائدات الضرائب، لأن الاقتصاد في حالة ركود.

كيف وصلت الولايات المتحدة إلى هذه الدوامة؟ هي خلقتها من قبل أزمة 2008 (وليس بسببها وبسبب كوفيد-19، كما يذهب بعض الاقتصاديين الأمريكيين، رغم مساهمة الأزمتين بصورة كبيرة في تعظيم المشكلة). فالولايات المتحدة خسرت القدرة التنافسية لمصلحة الصين. وهذا هو لب الموضوع الذي يجب أن تشتغل عليه النخب الأمريكية، بدءاً بمساءلة نفسها: ما هو المخرج من هذا المأزق؟

*خبير بحريني في العلاقات الاقتصادية الدولية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2tcbe8zj

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"