مناسبة لاستذكار الضحايا في كل مكان

03:50 صباحا
قراءة 4 دقائق

11 سبتمبر يتراجع في الذاكرة ويشحب، من دون أن يتضمن هذا الاستنتاج دعوة لنسيان أو تجاهل هذا الحدث المأساوي . ثمة عوامل أسهمت في تبهيت المناسبة، منها مقتل ابن لادن في الباكستان هذا العام، ليس في كهوف تورا بورا بل في بيت عائلي في بلدة أبوت آباد، ومن دون أن تدور أية مواجهة مع العدو رقم 1 الذي لم يُحِطْ نفسه بحراسات وكتائب حماية، ثم ما تردد عن مقتل أعضاء الفريق الذي قام بالعملية، وذلك باستهداف طائرة حربية أمريكية كانت تقلهم في أجواء أفغانستان بعد أسابيع على مقتل زعيم القاعدة . ثم جاء تنصيب خليفته الظواهري الذي لا يتمتع بأية كاريزما، وقبل ذلك كان قد ضعف بصورة ملموسة تأثير القاعدة التي بقيت لها جيوب في العراق والصومال وربما في الجزائر، مع عمليات في اليمن تؤدي إلى التشويش على الاحتجاجات الشعبية في ذلك البلد . وحين تشحب صورة الفاعلين ويخفت نجمهم ويتكبدون خسائر كبيرة متلاحقة ، فإن ذلك ينعكس على ما بقي من صورة الجريمة نفسها التي اقترفوها .

ثمة سبب آخر يتعلق بإشراق الربيع العربي منذ خريف العام 2010 والمتوالي فصولاً، ما أسهم في المزيد من إقصاء القاعدة ونشاطاتها، وكل ما يمثلها عن الذاكرة العامة في العالم العربي وفي مناطق أخرى من العالم كقوة افتراضية ومزعومة للتغيير، وفي تحسّن صورة المسلمين العرب الذين لم يسلموا قيادهم لذلك التنظيم، وفي بعض التحجيم تالياً لصورة 11 سبتمبر . والمقصود هنا التحجيم السياسي لا الإنساني، فالتعاطف مع الضحايا يبقى ثابتاً ولا يخضع لمعيار سياسي .

بعد هذه العوامل والمستجدات التي طرأت منذ نحو عام، يبرز سبب آخر لبهوت المناسبة خارج الولايات المتحدة، وهو سقوط أعداد هائلة من الضحايا المدنيين هنا وهناك منذ عشر سنوات في العراق وفلسطين ولبنان، وإخفاق الإدارة الأمريكية بإرساء ميزان سليم للعدالة ينتصر لجميع الضحايا، ويدين سائر القتلة في كل مكان على كوكبنا .

ليس ذلك بالطبع ذنب ضحايا 11 سبتمبر، الذين يستحقون بالقطع تعاطفاً دائماً لا لبس فيه . لكنه ذنب المؤسسة التي لم تتوقف عند اعتبار الحدث حداً فاصلاً في استراتيجتها الكونية، بل أعقبت ذلك بمضي هذه المؤسسة في نهج يقوم في بعض الحالات على تسييس حقوق الإنسان والشعوب، ما حفز كثيرين من المناوئين للسياسة الخارجية للولايات المتحدة إلى إجراء مقارنات وإثارة تساؤلات، وقد قدمت واشنطن نفسها لهم ومازالت أسانيد وتعِلات لما يذهبون إليه، بأن 11 سبتمبر ليس نهاية الدنيا، ولا هو، على ضخامته وفداحته، الحدث المأساوي الوحيد الذي شهده العالم منذ مستهل الألفية الثالثة، والأقسى من ذلك التعبير عن مواقف من نوع: لا نتعاطف مع من يناصبنا العداء ولا يتعاطف معنا .

هذه خلاصة مؤلمة يُسأل عن مغزى الوصول إليها من يقودون العالم، الذين لا يتوانون عن التمييز بين الضحايا، انطلاقاً من تمييزهم ابتداء وأساساً بين القتلة، فبين هؤلاء الأخيرون من هم في عُرف المؤسسة الأمريكية ويا للهول: ديمقراطيون وعصريون يتعين تمكينهم من الإفلات من أي عقاب أو حتى أية مساءلة، أما الضحايا في هذه الحالة فلا بأس من التعاطف اللفظي معهم لبضع ساعات، وبصورة لا تُكدر صفو القتلة، وشريطة ألا يترتب على هذا التعاطف العابر أي تغيير في السياسات الثابتة، فالصديق الحليف يبقى صديقاً حليفاً مهما ارتكب من جرائم جماعية!

الإشارة هنا هي لأصدقاء واشنطن في تل أبيب . خلال العقد الأول شنت تل أبيب حربين على لبنان وغزة . سقط ضحايا بالآلاف ومثلهم من الجرحى والمعاقين، وجرى تدمير مظاهر الحياة بما فيها الحياة العمرانية، ولكأن 11 سبتمبر قد تكرر . . لكن أفقياً هذه المرة في الضاحية الجنوبية وجنوب لبنان وفي قطاع غزة . وكأن لسان حال المؤسسة الأمريكية هو: انسوا هذين الحدثين، انسوا تلكما الحربين، تذكروا البرجين . . غير أن كل صاحب حسٍ سليم يستذكر البرجين والحربين معاً في أضمومة واحدة، في منظومة واحدة تدل على العُمي الأخلاقي لأصوليات ذات انتماءات دينية متعددة، ومدى ازدرائها للحياة البشرية وللحق المقدس في الحياة .

وفي هذه الأثناء يدرك المرء أن شبح 11 سبتمبر يلاحق أمريكيين كُثراً ويقضّ مضاجعهم، وقد تحدثت السلطات في الأيام القليلة الماضية عن تهديد جدي لكن غير مؤكد يستهدف واشنطن أو نيويورك بسيارات مفخخة، ويحتل الحدث مساحات كبيرة في مختلف وسائل الإعلام ويجري تدريسه للنشء الجديد في مناهج دراسية، ولا أحد يستغرب هذا الاهتمام المفرط بحدث مأساوي سبّب شرخاً عميقاً في وجدان الأمريكيين (ربما، بالمناسبة . . تم نسيان ضحايا حرب فيتنام من الأمريكيين، فضلاً عن الفيتناميين في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي) . غير أن البشرية لا تميز بين آلام الإنسان هنا وهناك، ولا بين ظلم وآخر يقع على أبرياء، ولهذا ففي هذه المناسبة يستذكر المرء ضحايا 11 سبتمبر من أمريكيين وغير أمريكيين، كما يستذكر ضحايا عرباً . . وضحايا مسلمين ومسيحيين في البلقان وفي كل مكان، أليس العالم قرية واحدة، ألم ترفع العولمة الحدود بين القارات والأمم؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"