النخبة ومفهوم الوطنية

02:43 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

تكشف الأحداث في عالمنا العربي، بل وفي العالم، أنه بات من الضروري إعادة النظر في العديد من المفاهيم الفكرية والسياسية، على اعتبار أن المفهوم بحدّ ذاته، أي مفهوم على الإطلاق، ليس ناجزاً، ولا ينبغي اعتباره كذلك، نظراً للمتغيرات الهائلة التي يشهدها الواقع، أو حركة التاريخ في تقدّمها أو انتكاسها، لكننا في كل الأحوال لا نستطيع الاستغناء عن المفاهيم في محاولتنا لفهم ديناميات الاجتماع الإنساني، وتناقض المصالح بين الفئات التي يتكوّن منها أي مجتمع، خصوصاً عندما يصبح الواقع سائلاً إلى درجة الفوضى، كما في العديد من الحالات التي يشهدها عالمنا العربي.
ترتبط المفاهيم، بدرجة كبيرة، بالمعطيات الموجودة في واقع ما، وهو ما يجعل من تعريف المفهوم بصفة الإطلاق والتعميم مسألة غير معرفية، فمفهوم الوطنية في البلدان التي أنجزت الدولة / الأمة يقارب إلى حد كبير مفهوم الحمائية، أو الانكماش على الذات، وفي تجارب معينة، كما في ألمانيا، هناك نوع من الحرص والحذر في استخدام مفهوم الوطنية، لكونه يشير إلى مرحلة لا يعتدّ بها من التاريخ الألماني الحديث، حيث قادت النازية / الوطنية هذا البلد إلى نهاية مدمّرة في الربع الثاني من القرن الماضي، وهو ما يجعل أي استدعاء لمفهوم الوطنية اليوم محفوفاً بمخاطر سوء الفهم، وكأنه دعوة صريحة إلى عودة النازية إلى حقل السياسة.
في عالمنا العربي كان هناك اختلاط مفاهيمي كبير منذ ما بعد الاستقلال عن الانتدابات الأجنبية، ففي الفكر القومي تم إغفال الوطنية لمصلحة مفهوم الأمة، على الرغم من الالتباسات التاريخية الكثيرة لمفهوم الأمة، فقد كان المنظرون القوميون العرب قد اعتبروا أن الهدف الأسمى المتمثل بوحدة الأمة يجعل من التفكير في بناء الوطنيات المحلية ضرباً من ضروب الرجعية، أو التمسّك بالقطرية (من القطر / البلد)، بل إن الكثير من الحملات الإعلامية السياسية التي شنّها القوميون ضد خصومهم، انطلقت من تخوين أي فكر وطني / محلي، لكونه يتناقض من وجهة نظرهم مع الهدف الأسمى، أي وحدة العرب السياسية.
مفهوم النخبة أيضاً لا يزال في عالمنا العربي محطّ جدل، وهناك نفور من استخدامه لدى أطراف متناقضة المصالح في ما بينها، حتى إن النقاش السياسي العام بعيد إلى درجة الغياب عن طرح مفهوم النخبة ودورها، أما عموم الفئات الاجتماعية البعيدة عن الفعل، من أبناء الطبقتين الوسطى والفقيرة، فإن مفهوم النخبة لديها يأخذ معاني سلبية، نتيجة الانفصال الواقع بين النخب السياسية والاقتصادية وبين عموم الفئات الأخرى، حيث لا توجد قنوات حقيقية للتواصل سياسياً أو إعلامياً بين النخب والجماهير.
خلال السنوات القليلة الماضية، بدا واضحاً مستوى تدخل الخارج الإقليمي والدولي في سياسات الكثير من الدول العربية، بل ذهب بعض ذلك التدخل إلى صيغ مباشرة، مثل التواجد العسكري، ودعم أطراف محلية ضد أطراف محلية أخرى، وأصبحت نخب سياسية وعسكرية مرهونة في وجودها بالدعم الخارجي، في تجاوز صريح لأي مستوى من مستويات الوطنية، حيث إن الوطنية في أحد أكثر أشكالها جوهرية ترتبط بالسيادة، ونقصان السيادة أو غيابها دليل على تخلي النخب عن الوطنية.
ليست النخب الحاكمة في عدد من الدول العربية التي تعمّها اليوم حالة الفوضى والاقتتال الداخلي هي فقط من فقدت شرعيتها الوطنية، بل أيضاً معظم معارضاتها السياسية، والتي مارست أيضاً الاحتكام إلى الخارج، من أجل دعمها مالياً وسياسياً وعسكرياً، وتحوّل الصراع الوطني إلى صراع من أجل السلطة، تغلّفه شعارات كثيرة، فقدت معناها في سياق الصراع نفسه، وقد دفعت الشعوب، ولا تزال، ثمناً باهظاً لنقص الوطنية لدى النخب، وقد وضعت تلك الشعوب أمام خيارين لا ثالث لهما، إما القبول بنخب مستبدّة منفصلة عن احتياجاتها، أو الفوضى والاقتتال.
إن المنحى العام، ليس فقط في عالمنا العربي، بل في معظم بلدان العالم، يتجه نحو حصر مفهوم النخبة بالسياسة، وهو ما يجعل من هذا المفهوم حكراً على الطبقة السياسية، مع تغييب كامل لأدوار نخب أخرى، يمكن أن تسهم في تعددية مفهوم النخبة نفسه، وجعله مفهوماً ديناميكياً.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"