حتى لا تتحول "الدولة" إلى حدث إعلامي

04:18 صباحا
قراءة 4 دقائق

الحملة الدبلوماسية التي تدار لانتزاع اعتراف الأمم المتحدة بدولة فلسطين، رغم أهميتها، فإنها لا تخلو من رتابة، تدلل عليها تصريحات فلسطينية من قبيل أنه من الأرجح أن تؤيد دولة البوسنة الطلب الفلسطيني، أو أن الجهود جارية لضمان اعتراف دولة جنوب السودان . يجهر المرء بذلك مع الاحترام لكل الدول صغيرها وكبيرها في عالمنا، سواء كانت حديثة أو قديمة الاستقلال (باستثناء الدولة الصهيونية القائمة على احتلال أرض الغير) .

مصدر الرتابة في الأمر أن هناك دولاً اعترفت بالفعل بدولة فلسطين، لكن الخبر يمر مرور الكرام ولا يترك أثراً في المجريات . ما السبب يا ترى؟ السبب أن هذا الاعتراف لا يفضي إلى شيء بعده . الفلسطينيون أنفسهم لا يضعون خريطة طريق لاستقلالهم، الاعتراف الدبلوماسي بدولة محتلة وعلى أمل أن يفعل هذا الاعتراف فعل السحر، هو كما يبدو غاية الأرب . لا شيء يليه سوى نقطة على السطر، واستئناف الرئيس عباس لكفاحه الأعز على قلبه وهو: شد رحال السفر بعيداً عن الوطن إلى هذه القارة أو تلك . . لافتتاح سفارة .

ولا يتوقف الأمر عند ذلك، فثمة تصريحات تفيد أن اللجوء إلى المنظمة الدولية يتم من باب الاضطرار لا ممارسة حق وواجب، وأن باب المفاوضات يظل مفتوحاً، وأنه إذا كان هناك من بديل ما فسوف يتم صرف النظر عن الذهاب إلى نادي الأمم . ومع ذلك فإن الإدارة الديمقراطية في واشنطن جعلت تلين موقفها الذي كان رافضاً للجوء إلى الأمم المتحدة، فقد تم نفي أن المساعدات سوف تتوقف عن السلطة، وهي بالمناسبة مساعدات شحيحة جداً تقتصر على تقديم خدمات في مجال تدريبات أمنية ودعم بعض المشاريع الصغيرة . واشنطن لن تقف بوجه المسعى لانتزاع اعتراف بدولة فلسطين . سوف تكتفي بممارسة حق النقض في مجلس الأمن! والراهن أنه سوف يتم اللجوء إلى الجمعية العامة، ثم التوقف والوقوف أمام نادي الكبار الخمسة المنشغلين بليبيا وسوريا إلى إشعار آخر . سوف يحصد الطلب موافقة عدد كبير من الدول، وقد تقع مفاجآت ما في توزيع أصوات المؤيدين والمعترضين . تل أبيب تخشى ذلك بالطبع، فتضاعف على الدوام من مصادرتها لأرض الدولة العتيدة وسلب 90 في المئة من المياه الجوفية وتدفع نحو حل يقود في النهاية إلى: ليكن للفلسطينيين دولة حيث هم يقيمون وراء جدار الفصل، ما داموا يتمسكون بهذا الحلم، ونحن حيث أقمنا مستوطناتنا (بعضها مدن كبيرة، تتمتع ببنية تحتية دائمة) .

يسعى الرئيس عباس إلى أن يختتم حياته السياسية بتحقيق مثل هذا الإنجاز، قبل أن تُجرى انتخابات رئاسية جديدة لن يترشح لها . سوف يكون إنجازاً بحق لو كانت خطوة تتلوها خطوات موضوعة في سياق متصل، لو كانت هناك عناية بالأرض والجغرافيا، تضاهي الاهتمام بالمكاسب المعنوية الدبلوماسية التي تتحقق للسلطة من دون أن تسهم في رفع معنويات الناس .

ليس مطلوباً تحقيق معجزات مثل شن حرب شاملة على جيش الاحتلال وإجباره على الانسحاب، وتفكيك مستوطناته وترحيل مستوطنيه الغزاة . أو دعوة سائر دول العالم إلى قطع العلاقات مع دولة الاحتلال، وطرد هذه الدولة من الأمم المتحدة وسائر الهيئات الدولية (سبق بالمناسبة أن تم طرد دولة تايوان الصينية من المنظمة الدولية)، بحيث تنكمش هذه الدولة تحت وطأة عزلة دولية خانقة . المطلوب خلاف ذلك هو خوض مواجهة سياسية حازمة مع دولة الاحتلال، وإشعار المجتمع السياسي الصهيوني بأنهم خاسرون في حال عدم احترام الحقوق الفلسطينية الأساسية، وعدم منح فرصة لسلام جدي .

هذه الرسالة يتعين أن تصل إلى بعض الأصدقاء في العالم . الاتحاد الأوروبي يبدو منقسماً على نفسه إزاء الاعتراف بالحق في إقامة دولة على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 . ومن المفارقة أن أوروبا التي كانت سباقة تاريخياً إلى الاعتراف بالحقوق الفلسطينية، باتت تتردد في الانسجام مع تاريخها هذا . وها هو ساركوزي يقترح دولة على غرار الفاتيكان، تتمتع بدور مراقب في المنظمة الدولية . بينما تبدي ألمانيا رفضها انضمام دولة فلسطين المزمعة إلى معاهدة المحكمة الجنائية الدولية، خشية مقاضاة دولة الاحتلال أمام هذه المحكمة . وفي الجملة فإن دولاً أوروبية عدة تسعى إلى التوفيق بين ما لا يمكن التوفيق بينه: بين النزعات التوسعية الصهيونية ووضع الدولة العبرية فوق القانون الدولي من جهة، وبين الحق الفلسطيني في إقامة كيانه المستقل فوق جزء من أرضه التاريخية (الضفة الغربية قطاع غزة) . وتنشط في الأثناء دول عربية ومعها الجامعة العربية، في ترتيبات هذه المعركة الدبلوماسية .

بطبيعة الحال فإن التحفظات الواردة في هذا المقال لا تقلل من أهمية هذه المعركة الموضعية على جبهة المجتمع الدولي وعلى مسرح الأمم المتحدة وتحت أنظار العالم كله . الخشية تكمن في تحويل هذه المناسبة السياسية (الدولة الفلسطينية) إلى حدث إعلامي محض، سرعان ما يبهت بعد انحسار الأضواء عنه . ما يضمن عدم تجويف هذه المناسبة، هو تقدم الجانب الفلسطيني بخطاب سياسي جديد ذي نزعة تحررية، يدعو أولاً إلى إنهاء الاحتلال العسكري والاستيطاني، والطلب إلى دول العالم بدعم هذه الدعوة وتبنيها، وثانياً المطالبة بنشر قوات دولية لمرحلة انتقالية قصيرة الأمد، وأن يقترن ذلك بإطلاق حركة شعبية مدنية تضغط لإنهاء الاحتلال وضمان إقامة دولة ذات سيادة .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"