ما حك ّجلدك مثل ظفرك

02:35 صباحا
قراءة 7 دقائق
د. يوسف الحسن

ما قاله الرئيس الأمريكي أوباما، في حواراته الطويلة مع الصحفي الأمريكي الصهيوني جيفري غولدبرغ، ونشرته مجلة (ذي أطلنتيك) مؤخراً، ليس مفاجئاً لمن سبر أغوار السياسة الأمريكية، وأدرك أن الدول كلها، وبخاصة الدول الكبرى، ليست جمعيات خيرية، من همومها مسح دموع الآخرين، وإنما هي كيانات معقدة، لها ضرورات أمنها، ولها في ذلك استراتيجياتها، وإدارة علاقاتها مع المجتمعات الأخرى، على أساس تبادل المنافع وموازين القوة.
لا ترى أمريكا الأمور في عالمنا، بعيون حلفائها أو أصدقائها، وإنما بعيونها، وبمنظارها الاستراتيجي، وبحسابات المؤسسة الأمريكية العميقة، القابضة على خيوط اللعبة، ومفاصل القوة الأمريكية. وتظل وظيفة «الإدارة الأمريكية»، جمهورية كانت أم ديمقراطية، هي إدارة أجندة هذه المؤسسة العميقة. تتغير الإدارات والأجندات، وتتغير أساليب الرؤساء، لكن المحتوى لا يتغير، وفي إطار مصالح عليا أمريكية.
لمعظم رؤساء أمريكا، منهج يطلق عليه اسم «مبدأ أو عقيدة»، تمليه عليهم ظروف معينة، وأوضاع داخلية وعالمية، وتحديات ذات طبيعة متغيرة. فمبدأ نيكسون مثلاً، جاء إثر إنهاء التورط الأمريكي في فيتنام، وعلى أبواب تطوير علاقاته مع الصين، واقتصر دور أمريكا على تقديم الدعم والسلاح والمشورة والخبرة للحلفاء، واعتماد دولتين من الحلفاء (إيران الشاه و«إسرائيل») لتعزيز النفوذ الأمريكي. وقبله كان مبدأ ايزنهاور، في أزمنة الأحلاف العسكرية في آسيا والشرق الأوسط، لمواجهة المعسكر الشيوعي، ولملء الفراغ، بعد فشل الغزو البريطاني والفرنسي و«الإسرائيلي» في حرب السويس (1956) وجاء مبدأ كارتر للمحافظة على كيان الحلفاء في إقليم الخليج، واعتبر ذلك مسؤولية أمريكية مباشرة، تجاه النفط وخطوط نقله، وفي مواجهة تهديدات محتملة من الثورة الإيرانية في (1979). وبعده جاء مبدأ ريغان (العصا الغليظة).. وهكذا.
وفي كل الأحوال، ظلت الإدارات الأمريكية، تنظر إلى الشرق الأوسط، بما فيه إقليم الخليج العربي، باعتباره جزءاً من مسرح سياسي - استراتيجي أكبر، وتصل حدوده إلى تركيا والباكستان والقرن الإفريقي.
وجاء أوباما، ليواجه تحديات مماثلة لتلك التي واجهت نيكسون، مثل إخراج أمريكا من ورطتي أفغانستان والعراق والتعامل مع إشكالية صعود الصين، وعودة روسيا للعب دور قيادي في العالم، وفي الوقت نفسه يواجه مهام وأهدافاً غير منجزة في أكثر من مكان، في أفغانستان وليبيا والعراق.. إلخ.
ومن المدهش، أنه أعلن أول تباشير عقيدته، منذ اليوم الأول من رئاسته، وقال: «إن أيام التدخل الأمريكي انتهت»، صحيح أنه توسل في تدخلاته سلاح (الطائرة من دون طيار)، كما أنه لم يندم على مشاركته العسكرية في إسقاط القذافي، لكنه يحمّل الأوروبيين المسؤولية المباشرة عن «انزلاق ليبيا إلى التمزق والفوضى»، وصولاً إلى أزمة اللاجئين، وأكد في حواراته الصحفية: «أنه كان مخطئاً، عندما ظن أن الأوروبيين يستطيعون ،بحكم قربهم الجغرافي من ليبيا، إعادة الأمور إلى نصابها، بعد انتهاء التدخل العسكري».
لنسأل أنفسنا.. إلى ماذا يرمي أوباما في حواراته الأخيرة مع جولدبرغ، والتي سميت بمبدأ أو عقيدة أوباما؟ وما الجديد، في حديثه الذي ينشر قبيل ثمانية شهور من مغادرته البيت الأبيض؟
في قراءتي للمشهد الأمريكي، أعتقد أن مجمل الحوارات، جاء للرد أولاً على الانتقادات الأمريكية الداخلية الموجهة إليه، وبخاصة الصادرة عن أوساط ومؤيدي الحزب الجمهوري ،والتي تتهمه بالضعف والانكفاء.. وهي اتهامات تلقى في ظل تنافس انتخابي حاد، ومزاج سياسي انكفائي للرأي العام الأمريكي، لمصلحة التوجه نحو الداخل لمواجهة أزمات وإشكاليات اقتصادية داخلية، ورفض للعب دور «شرطي العالم»، ولسياسات التدخل والسيطرة والتوسع، وما تتطلبه من أكلاف بشرية ومادية.
وفي الوقت نفسه، يلاحظ أن أحاديث أوباما الصحفية والتي تبلورت فيما يسمى «مبدأ أوباما»، موجهة إلى الرأي العام الأمريكي، سواء بلغتها وتعابيرها ورموزها، أو بالأمثلة التي قدمها، كقصة الفيلم السينمائي (عودة الفارس الأسود) وبطله «الرجل الوطواط»، والشرير (الجوكر) الذي شبهه ب«داعش».
وكل التعابير والرموز والأمثلة، هي شائعة في المخيال الشعبي الأمريكي.. ولا تعني شيئاً كثيراً للرأي العام العربي أو الشرق أوسطي. لكن أهمية هذا الحديث المنشور على لسان أوباما، تكمن في تقديمه مراجعة شاملة للسياسة الخارجية الأمريكية في عهد إدارة أوباما.
وخلاصة القول، إن الشرق الأوسط (ما عدا «إسرائيل»)، لم يعد يشكل أهمية كبيرة في الاستراتيجية الأمريكية، وإن الأهمية الكبرى، انتقلت إلى شرق آسيا والصين، وإن حروباً خاضتها أمريكا في الشرق الأوسط، لم تحقق نتائج مرجوة، رغم كلفتها الباهظة في الأرواح والأموال، وبالتالي فإن أكلاف التدخل الأمريكي المباشر، في شؤون وإشكاليات المنطقة، هو أكثر من أكلاف الانكفاء عنها، وهذا يعني، أن مبدأ أوباما، يرتكز على استقالة طوعية من قيادة العالم الشرق أوسطي، وينتقد حلفاء له وأصدقاء في أوروبا والشرق الأوسط، بل ويزدري بعضهم، ويصف بعضهم أيضاً، بأنهم يريدون من أمريكا أن تقاتل نيابة عنهم، «ويركبون على ظهرها مجاناً».
لنقل إن تبريرات سياسة الانكفاء، كما قدمها أوباما، مقبولة أيضاً من قطاع شعبي واسع في الوطن العربي، لكن من خبر دواخل السياسات الدولية، يدرك أن هذه التبريرات تحمل شيئاً من الإقرار بالعجز عن المشاركة في إدارة ملفات ساخنة، وتسوية أخرى مزمنة، وفشل في حلها من منظور شرعية دولية.
لكن في كل الأحوال، تظل مسألة دهشة أو غضب بعضنا لما جاء في حوارات أوباما الصحفية، محل استغراب الضالعين في علم السياسات الأمريكية خلال العقود الأربعة الماضية.
فالرئيس أوباما، قال، قبل وبعد، توقيع الاتفاق النووي مع إيران، الكثير من حديثه المنشور في مجلة «ذي اطلنتيك»، كما نبهنا أوباما نفسه، في قمة كامب ديفيد (مايو 2015) :«إن حصوننا مهددة من الداخل»، وإن علينا «أن نقلع شوكنا بأيدينا»، وطالبنا بإصلاح مجتمعاتنا. وجاءت المملكة المغربية لتقرع جرس إنذار، ولتقول: لم يعد باستطاعة الزعماء العرب المجتمعين في قمة عربية، الوقوف مكتوفي الأيدي، تجاه، معضلاتنا العربية الراهنة، والتي بلغت حداً هائلاً من التعقيد والاستفحال والاستعصاء، إلى الدرجة التي تدفع المغرب إلى الاعتذار عن استضافة القمة العربية.
قال لي قبل أيام، سياسي عربي حكيم:
ما الخطأ في سياسة ترفض، التدخل العسكري الأمريكي في بلدان إسلامية؟ وهل تجربة التدخل الأمريكي في العراق، كانت برداً وسلاماً وديمقراطية، أم إنها كانت كارثية بكل المقاييس، وكذلك الحال في غزوها لأفغانستان، حيث تمددت «القاعدة»، وفرّخت جماعات عنف وإرهاب، تعيث في الأرض فساداً وقتلاً وإرهاباً وتدميراً، وها هي «طالبان»، حية ترزق وتقتل وتتمدد وتفاوض للعودة إلى السلطة.
وأضاف السياسي الحكيم متسائلاً:
ما الخطأ في قول أوباما، إنه «ضد المصداقية التي تشترى بالقوة»، وقوله :«إن إلقاء القنابل على أحد ما للبرهنة على أنك قادر على إلقاء القنابل، هو أسوأ ذريعة لاستخدام القوة»، وما الخطأ في ازدرائه لرؤساء حكومات بريطانيا وفرنسا وتركيا و«إسرائيل»، ولمؤسسة وزارة الخارجية الأمريكية.
وقال أيضاً: «لا ندري، هل من مصلحتنا العربية العليا، أن تكون أمريكا في سياساتها تجاه قضايانا جريئة وتدخلية وصدامية ومغامرة؟ كم نقدنا وشتمنا مقولة «الفوضى الخلّاقة»؟ أم أن مصلحتنا العليا أن تكون سياسات أمريكا عقلانية بعيدة عن العسكرة وازدواجية المعايير، ومنسجمة مع منظومات حقوق الإنسان والحلول السلمية التي تحفظ الأمن والسلم الدوليين؟!
لا أحد في وطننا العربي، لا يشعر بوطأة الأزمات وهي تطبق من كل ناحية، على عقله ووجدانه وأعصابه وهويته. وبالتالي، فإن مجيء أوباما في آخر أيامه في الحكم، بهذه «العقيدة» المفاجئة وبهذه الأفكار الكاشفة لسياسات اعتمدها خلال السنوات السبع الماضية، وبهذه الجرأة غير الدبلوماسية، تجاه حلفاء، شاركتهم أمريكا لحظات ضعفهم أو صعودهم، وبادلوها بالتعاون والدعم لسياساتها طوال أكثر من أربعة عقود، وهي سياسات فيها ما فيها من أخطاء وخطايا وخفايا ومنافع متبادلة في حينها.
نعم.. كان ذلك أمراً ثقيلاً، في لحظات مشحونة باعتبارات متشابكة ومتضاربة، وفي مرحلة إحباط وفوضى شديدة، وحيث كل الطرق تبدو مسدودة.
لا شك أن الحكمة تسهل بأثر رجعي، حينما نستدعي حكايات تعاون عربي مع أمريكا في الماضي، لكن الحديث عما في مبدأ أو عقيدة أوباما من مآخذ، وما أكثرها، لا يعني، أن هذه العقيدة فاسدة. إن مجموعة القيم السائدة في مؤسسات الدولة الأمريكية والإدارة الحالية، ليست هي مجموعة القيم السائدة في دولنا العربية، منطق أمريكا غير منطقنا، وأزمتنا مع أوباما، ينبغي ألا تكون شخصية أو عاطفية.
في منطقنا، نعم، أخطأ أوباما.. فلا أحد من حلفائه ركب قطار المصالح المتبادلة مجاناً، لأمريكا أخطاؤها، ولنا أخطاؤنا وهي بحاجة إلى تصحيح وإعادة نظر.
أخطأ أوباما في نظرته المجتزأة، وأحياناً السطحية لقضايا مهمة في المنطقة، أخطأ حينما راهن على إيران كقوة إقليمية قادرة على حل الأزمات الراهنة، رغم أنها جزء من إشكاليات التوتر المذهبي وملفات أخرى متفجرة، وأخطأ أوباما حينما تجاهل الدور الأمريكي في نشأة (القاعدة) وأخواتها، والدور الأمريكي في تدمير العراق، وزرع بذور المحاصصة الطائفية، وتسليم العراق إلى إيران على طبق من الفضة، أخطأ حينما تجاهل الدور الأمريكي في دعم وتشجيع (التغول) «الإسرائيلي» وإطالة أمد الاحتلال، ومعاناة الشعب الفلسطيني.
وكذلك الدور الأمريكي في غض الطرف (وأحياناً الرضى) عن صعود تيارات الإسلام السياسي الساعية للسلطة، والدور الأمريكي في إشعال حرب «جهادية»، وتدريب «جهاديين» في الصومال والباكستان وأنغولا وإيران - كونترا، وعراق جيت.. إلخ.
لا يعفى أوباما، من مسؤولياته تجاه ما جرى في ليبيا، وتحولها إلى نقطة جذب للإرهاب، وتشجيعها لتركيا على التدخل الواسع في الشأن السوري وعسكرة انتفاضة سلمية كان من المؤمل أن تحقق أهدافها بأقل قدر من الدماء والدمار.
لكن في نهاية المطاف.. تظل «عقيدة أوباما».. أكبر من مجرد أحاديث وتصريحات صحفية، وسيذكرها التاريخ مثل غيرها من مبادئ الرؤساء الأمريكيين..لها ما لها وعليها ما عليها
ما المطلوب منا، خليجياً وعربياً؟
ليس من الحكمة استحضار خطاب العتاب، أو التذكير بالعطايا والمعلومات المتبادلة، وإلا وقعنا في المحظور، وتهريب حقائق تاريخية معروفة.
نحتاج إلى فهم حقيقة وطبيعة سياسات القوى العظمى، وإدراك أن النوم على وسادة الأقوياء أو الرقص معهم، له أكلافه وشروطه الصعبة، حتى لو وفرت لنا الطمأنينة المؤقتة، لكن في نهاية المطاف، على حلفاء الأقوياء، ضبط خطواتهم على وقع حسابات الكبار. هذه هي قواعد الرقص مع الأقوياء.
هي فرصة للتفكير والتدبر، فيما انتهت إليه العلاقات العربية - الأمريكية، وفي إعادة الحسابات في زحام هذه المتغيرات.
لا داعي للارتباك أو الغضب، ولنستعد لإعادة ترتيب الأولويات، والابتعاد عن الإنشاء والإنشاد، والعتاب، حينما تتباعد الطرق، وزوايا الرؤية، فالمسألة تتعدى بكثير حدود المكتب البيضاوي في البيت الأبيض.
ولنتذكر دائماً قول الشافعي:
ما حك جلدك مثل ظفرك
                              فتولّ أنت جميع أمرك

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"