صوت واحد للبشرية

02:05 صباحا
قراءة 7 دقائق
استطلاع: نجاة الفارس

هل إغلاق الدول وتراجع حركة السفر والبضائع جيد أم سلبي؟، وهل ذلك يمثل فرصة لنعيد التفكير في العولمة التي أدت بدرجة ما إلى عولمة الفيروس، أم إن العزلة ستجعلنا نحب العولمة، خاصة أن البشرية اتحدت لأول مرة حول فكرة ما؟ وإلى أي مدى نحتاج للتفكير في كل تجليات العولمة السياسية والاقتصادية والثقافية؟. أكد عدد من المفكرين والكتاب أن ما يجري حالياً من إغلاق حدود الدول ووقف حركة النقل للأفراد عبر الحدود، يجب أن ينظر إليه كإجراء وقائي مؤقت من أجل مواجهة جائحة كورونا والقضاء عليها، وهو أمر محمود إذا ارتبط فقط بمكافحة الجائحة وحماية أرواح الناس، موضحين أن هناك جوانب مشرقة للعولمة المسؤولة التي تراعي خصوصيات المجتمعات وتوحد أصوات البشرية نحو مواجهة التحديات العالمية، والعمل يداً بيد من أجل النهوض بالمجتمعات على أسس المساواة والعدالة واحترام الآخر والتنوع والتعددية، والعيش المشترك والتسامح.
وأضافوا أن ما يحدث فيه إيجابيات كثيرة، وله سلبيات أيضاً لا يمكن لعاقل أن ينكرها، فالأزمة فرضت على كل فرد بسبب الحاجة أن يفكر بشكل إبداعي، ويبحث ويتأمل، بمعنى أننا أصبحنا نعيد حساباتنا وأولوياتنا، كما أن تجربة كورونا (كوفيد 19) ستغربل بعض جوانب القصور وتظهرها إلى السطح، وبالتالي، فإن البشرية باتحادها يمكن أن تحول مسار العولمة إلى غايات أسمى.

مظلة

يقول الكاتب الدكتور محمد عايش، رئيس قسم الاتصال الجماهيري في الجامعة الأمريكية: لا شك في أن العالم خلال العقود القليلة الماضية قطع شوطاً بعيداً في تعزيز الاعتمادية المتبادلة بين الدول والأمم، وهو ما عززته ثورة المعلومات والاتصالات الرقمية في التسعينات من القرن الماضي، مما أدى إلى ظهور اتجاهات تشجع حرية التجارة والتنقل وانسياب البضائع والهجرات الطوعية، وحركة انتقال الأفراد عبر الحدود في مجالات التعليم والسياحة والتبادل الثقافي تحت مظلة العولمة، حيث برزت تحالفات دولية مهمة في أطر دولية وإقليمية للتعامل مع تحديات مشتركة مثل مكافحة الإرهاب، وتغير المناخ ومكافحة الفقر والأوبئة، وفي ضوء ذلك، فإن الانكفاء وإغلاق الحدود سيجلب آثاراً مدمرة على الاقتصادات الوطنية والعالمية.
ومن ناحية أخرى، فإن ما يجري حالياً من إغلاق حدود الدول ووقف حركة النقل للأفراد عبر الحدود، يجب أن ينظر إليه كإجراء وقائي مؤقت من أجل مواجهة جائحة كورونا والقضاء عليها، وهو أمر محمود إذا ارتبط فقط بمكافحة الجائحة وحماية أرواح الناس.
لا يختلف اثنان على بعض الجوانب المظلمة والأبعاد المتوحشة للعولمة وتأثيراتها الرهيبة على الاقتصادات والثقافات المحلية، فهي ثقب أسود يبتلع الخصوصيات الثقافية للدول والشعوب، وهي سيف مسلط على الاقتصادات المحلية التي تحاول النهوض بكينونة خاصة بها، غير أن هناك جوانب مشرقة للعولمة المسؤولة التي تراعي خصوصيات المجتمعات وتوحد أصوات البشرية نحو مواجهة التحديات العالمية، والعمل يداً بيد من أجل النهوض بالمجتمعات على أسس المساواة والعدالة، واحترام الآخر والتنوع والتعددية والعيش المشترك والتسامح، ففي ظل هذه الجائحة المدمرة، ليس هناك خيار أمام البشرية سوى الاتحاد والعمل سوياً للحد من تأثيراتها على مستقبل هذا الكوكب.
ليس ممكناً أن نفكر في العولمة بمعزل عن تجلياتها السياسية والاقتصادية والثقافية السلبية، ولكن في الظروف الحالية التي تواجه فيها البشرية أحد أعتى تحدياتها، لا بد من تنحية الخلافات السياسية والاقتصادية والثقافية جانباً، والتفرغ لمقارعة هذا الخطب العظيم، وأن تكون السياسة والاقتصاد والثقافة أدوات بناءة توظفها البشرية للوقوف أمام تهديدات هذا الفيروس التي لا تستثني أي عرق أو دين، أو ثقافة أو منبت جغرافي.

ضربة موجعة

ويقول الدكتور عبدالله سليمان المغني أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر في جامعة الشارقة: لا نستطيع الإجابة عن هذه التساؤلات؛ لأن هذه الظاهرة غير المسبوقة في تاريخ العالم منذ عقود، تحتاج لوقت ودراسات معمقة لمعرفة آثارها على المجتمعات، لكن برؤية سريعة الآن، أستطيع القول إن لها جانباً سلبياً هو العزلة المانعة للتدافع الاجتماعي البشري الذي حث عليه القرآن الكريم، وتمثل ضربة موجعة لكثير من أنواع الاقتصاد وخصوصاً السياحة، وشركات الطيران على سبيل المثال، إضافة إلى أن ما نراه من تعاون عالمي لإيجاد علاج أو تطعيم لهذا الوباء، يجعلنا نحزن لهذه العزلة.
أما الجانب الإيجابي فهو سعي الدول والمجتمعات بعد هذه الضربة الموجعة لفكرة العولمة إلى تلمس حقيقتها الذاتية ومعرفة قدراتها، وإعادة بناء اقتصادياتها الذاتية، وتقليل الاعتماد على الاستيراد، إضافة إلى إعادة الحرارة للعلاقات الاجتماعية الجيدة للمجتمعات المحلية، وعلى رأسها التكافل، والتعاون والمساعدة، وكذلك بدأت عملية وعي ذاتي بمصير الإنسان، والتفكير الجدي في ماهية المستقبل المبني على حماية البيئة ومراعاة الموارد الطبيعية وعدم استنفادها بشكل كامل؛ لذا فإن لما يحدث إيجابيات كثيرة، وله كذلك سلبيات لا يمكن لعاقل أن ينكرها.
أود تأكيد أن سهولة الاتصال والتنقل ربما ساعدت في سرعة انتشار المرض، لكن ماذا عن العصور الوسطى حيث ضعف المواصلات؟، ربما كان الفيروس سينتشر، ولكنه كان سيأخذ وقتاً أطول مثلما حدث في الطاعون الأسود الذي عمّ الكرة الأرضية، وأفنى مئات الآلاف من أهلها، إذا ليست العولمة أو سهولة الانتقال هي المسؤولة عن نقل الوباء، ربما سرعت من انتقاله لا أكثر.
ولا بد الآن من وقفة حقيقية لكل المفكرين والمنظرين في كل الحقول حول التجليات الراهنة للعولمة، وإعادة بناء لآثارها الاقتصادية والسياسية والثقافية من جديد، تكون قائمة على سبر غور هذه المحنة التي يمر بها كوكب الأرض والبشرية عموماً، للتفكير مرة أخرى في النتاجات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لمرحلة العولمة التي أرى أنها الآن أصبحت سابقة «أي مرحلة سابقة» وأن المرحلة القادمة ستبقى العولمة، لكن بتجليات اقتصادية وسياسية وثقافية جديدة، تراعي خصوصية المجتمعات ثقافياً وسياسياً، كما تغير جوهرياً الأنماط الاقتصادية السائدة الآن، لصالح أنماط تعتمد أكثر على الاكتفاء الذاتي، ومراعاة البيئة وعدم هدر الموارد الطبيعية في غير مكانها الصحيح.

إجراءات ممنهجة

ويقول الكاتب الدكتور محمد حمدان بن جرش الأمين العام لاتحاد كتاب وأدباء الإمارات: تهدف العولمة في مفهومها العام إلى عولمة الاقتصاد والسياسة والثقافة وتأخذ صفة العالمية دون الالتفات إلى اختلاف الأديان والثقافات والأعراق وغيرها، وهنا تطرح أسئلة جوهرية: من يتحكم في النظام العالمي الجديد (العولمة)؟ من يضع القوانين وآليات العولمة؟ هل هناك ضوابط تراعي الاختلافات والأنماط الاجتماعية؟، وماهي القيم الإيجابية التي تضيفها العولمة إلى المجتمع الإنساني؟، وهل العولمة مرادف أم مضاد لمفهوم الهيمنة؟ ومما لا شك فيه أن العولمة في المجال الثقافي أدت إلى الانفتاح على ثقافة الآخر المختلف والاستفادة من منها دون التخلي عن الثوابت الثقافية الأصيلة التي تجعل الفرد أكثر تفهما ووعياً بالمشترك الإنساني والمصير الواحد للجنس البشري، وفي كل عصر تبرز سياسات وقوانين ونظم وتيارات فكرية تفرض نفسها بسبب رياح العولمة غير المحدودة، وهنا نطرح سؤالاً آخر وهو: هل حققت العولمة العدالة والتضامن خصوصاً لدول العالم الثالث وبالتحديد الدول النامية ؟ أم إنها تقودها إلى السيطرة والمركزية وما يسمى بالهيمنة، وهنا تتباين قوة صمود الدول ومدى استفادتها من العولمة وجاهزيتها ما بين مستفيد ومتضرر، وهذا ما يحكمه كذلك ما تمتلكه الدول من إمكانيات وقدرات.
مع اجتياح فيروس كورونا العالم بحثت الدول في كيفية محاربة فيروس كورونا ووضعت الإجراءات لحصاره والقضاء عليه، وتسبب كورونا في توحيد المجتمع العالمي في الخوف والبحث عن طوق نجاة من ويلات انتشاره، ومن تلك الإجراءات الاحترازية أغلقت الدول حدودها وعزلت شعوبها عن دول العالم، وظهرت بعض الدول مهزوزة وغير قادرة على السيطرة، وأظهرت دول أخرى انهيارها في مواجهة الخطر وأكبر خطر ليس فقط الجانب الصحي والبشري، وإنما ما صاحبه من انهيار اقتصادي وسياسي، لعدم وجود الإمدادات وعدم تمكن الدول من مساعدة بعضها بعضاً وتغيرت الموازين، وبوصلة القوة العالمية بدأت تهتز باتجاه مختلف، وهنا نشيد بدولة الإمارات التي قامت بدورها الإنساني في حماية ووقاية شعبها من مواطنين ووافدين، ومد يد العون للشعوب الأخرى فلم تتركها وحيدة؛ بل وقفت معها بكل ما لديها من إمكانات حتى يتعافى المجتمع الدولي من هذه الغمة.
إن جائحة كورونا جرفت التوتر والقلق من وتيرة الحياة، وقد قامت قيادتنا الرشيدة بإطلاق مجموعة من الإجراءات الممنهجة على مراحل ليس فقط كعلاج ولكن كوقاية، وهي إجراءات ذكية فيها الإبداع والابتكار أدت إلى توعية المجتمع، وكانت الإمارات جاهزة من حيث البنية التحتية والكوادر والإمكانات، وعندما طلب البقاء في المنزل تحولت المؤسسات إلى مؤسسة واحدة هي الأسرة، وأصبح معظم الناس يعمل من المنزل عن طريق الأجهزة الذكية، وصار التعليم والتعلم عن بعد، فالمنازل أصبحت مراكز إبداع.
وبالنسبة لنا ككتاب صارت لدينا فرصة ذهبية لاستكمال أعمالنا الأدبية التي كانت تحتاج لوقت، وما حصل الآن زاد التعاون الأسري والترابط والإحساس بالمسؤولية، فالأزمة أدت إلى أن كل فرد بسبب الحاجة أصبح يفكر بشكل إبداعي ويبحث ويتأمل، فصرنا نعيد حساباتنا وأولوياتنا، بالاعتماد على الضروريات التي تفي بالاحتياجات والأساسيات.
لقد توحد العالم في مواجهة الوباء، واستطعنا نحن أن نحول التحديات إلى إنجازات، حسب ما سبق وتعلمناه من مدرسة الوالد المؤسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيب الله ثراه، لقد تطورنا، لكن لم نتخل عن القيم الإنسانية داخلياً وخارجياً.


غايات أسمى


الكاتب عبدالله عبد الرحمن، باحث في دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي يقول: يمكن القول إن تجربة كورونا ستغربل بعض جوانب القصور في العولمة وتظهرها إلى السطح، وبالتالي، فإن البشرية باتحادها يمكن أن تحول العولمة إلى غايات أسمى تضع في اعتبارها المساواة في توفير أساسيات الحياة ومقومات الراحة التي أصبحت مهمة اليوم أيضاً.
إن من ديدن الأزمات أنها تقوي فينا سلطان القيم الإنسانية الفطرية المتعالية على الفروق، وستحوز قصب السبق تلك المجتمعات التي جعلت من هذه القيم أساساً غير مكتوب لصنع السياسات التي يكون محورها الإنسان، وقد تتيح لنا هذه الأزمات مجالاً لإعادة النظر في الآلية النمطية لصيرورة الحياة اليومية، واكتشاف أن كثيراً من مجرياتها تحمل طابع طقوس وواجبات عرفية لا قيمة نفعية حقيقية، وتأتي هذه اللحظة كلحظة تأمل لهذا النظام وفرصة لإعادة ترتيب مجرياته.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"