عادي
شهدت موجتين عامي 1903 و1907

الطاعون يضرب المنطقة ترافقه الشائعات

05:40 صباحا
قراءة 9 دقائق

ماذا ينفر الناس من الفئران، رغم أنها حيوانات ضعيفة وأليفة؟ الفئران لا تهاجم، ولا تملك غدداً سمية كالثعابين، أو مخالب حادة تؤذي من يقترب منها، ومع ذلك، انزرعت في نفوس معظم الشعوب، وخاصة العرب، كراهية عميقة لهذا الحيوان الصغير المسالم الذي يهرب بكل ما يملك من قوة لأي مكان يستطيع الاختباء فيه بمجرد أن يراه أحد، ومن الممكن أن يظل فترة طويلة خلف خزانة ملابس أو تحت سرير أو في مخزن مليء بالمؤن من دون أن يتحرك من مكانه متحملاً الجوع والعطش عن أن يموت تحت ضربات نعل من يعثر عليه أو يشاهده صدفة . هذه الكراهية الكبيرة لهذا الحيوان مردها إلى ارتباط هذا الحيوان بأخطر مرض عرفته البشرية، ألا وهو الطاعون الذي حصد من البشر على مر التاريخ أكثر مما حصده أي مرض آخر، وأصيبت به مدن كثيرة في منطقة الخليج خلال فترات مختلفة من العصر الحديث .

لم يعرف على مر التاريخ مرضاً خطراً كالطاعون، وبدأ أول وباء معروف لهذا المرض عام 542 واستمر 60 عاماً قضى خلالها على نحو 100 مليون شخص في جميع أنحاء العالم، خاصة في أوروبا، ثم ظهر بصورة وبائية مرة أخرى عام 1364 واستمر حتى نهاية القرن السابع عشر وانتشر في جميع أنحاء العالم، وتسبب في موت 25 مليون شخص في أوروبا وحدها، وبدأ الظهور مرة ثالثة في الصين عام 1860 وامتد إلى هونغ كونغ والمناطق المحيطة بها عام ،1894 واستمر في الانتشار حتى عام 1934 وتسبب في موت ملايين عدة من البشر، وعاود الظهور في بعض الدول في ما بعد، فقد ظهر في اليمن ونيبال وموزمبيق عام 1968 وفيتنام عام 1970 والولايات المتحدة وشمال أمريكا وتنزانيا وليبيا وزائير عام 1971 وناميبيا عام ،1974 واختفى بعد ذلك . وأعلنت منظمة الصحة العالمية انتهاء وجود هذا الوباء الخطر في العالم، إلا أنه ظهر بصورة وبائية مفاجئة في سورات بالهند في اكتوبر/تشرين الأول عام 1994 وأدى إلى وفاة 64 شخصاً خلال بضعة أسابيع، وتسمى الجرثومة المسببة للمرض يارسينا بيستس، وهي نوع من البكتيريا التي تفرز سموماً خارجية وداخلية عدة، ويمكنها أن تعيش سنوات عدة تحت الصفر في الأنسجة المجمدة، كما أنها تستطيع العيش في ظروف الأجواء الرطبة والحرارة المنخفضة، ويمكنها البقاء لفترات طويلة في جحور الفئران العميقة أشهراً عدة، ولكنها تموت بالجفاف والحرارة العالية فوق 40مْ، وتموت خلال دقيقة واحدة في درجات الغليان، وتستطيع البقاء على الملابس لمدة 5-6 شهور، وفي الماء لمدة شهر كامل، وفي اللبن ثلاثة شهور، وعلى الخبز أربعة أيام وعلى الخضار والفواكه لمدة 11 يوماً، وفي التربة 3 شهور وعلى الحبوب وفي الجثث النافقة لمدة 40 يوماً، وفي الأنسجة الطرية أسبوعاً كاملاً، وفي البصاق لمدة 10 أيام . وكذلك تعيش هذه الجرثومة في براز البرغوث المصاب شهوراً عدة، وكان كيتاساتو يايس أول من وصف الميكروب والمرض بصورة سليمة عام1894 خلال وباء هونغ كونغ، ولذلك سمي باسمه . (1)

وتنتقل العدوى إلى الإنسان عن طريق القوارض والفئران والجرذان وعن طريق الإنسان المصاب بالطاعون، وتلعب البراغيث دور الوسيط الناقل للمرض من الفئران إلى الفئران، ومنها إلى البشر، وتنتشر العدوى عن طريق التنفس (الهواء) فيحدث الطاعون الرئوي أو بواسطة البراغيث وهو النوع المعوي أو ما يسمى بالحصار الطاعوني، ويدخل الميكروب الطاعوني عبر الجلد عند لدغة من البراغيث المريضة، وتصل الجرثومة إلى الغدد اللمفاوية حيث تتكاثر، وينتقل الميكروب عن طريق الدم إلى الأعضاء الداخلية وتتكون البؤر الطاعونية، ويخرج الميكروب مع البول والبراز والبلغم ويصيب المرض الجلد والجهاز العصبي والتنفسي والهضمي . (2)

ويلاحظ دائماً أن ظهور حالات الأوبئة بالطاعون في الإنسان، يسبقها حالات أوبئة بالطاعون في الجرذان أولاً، وتنتشر العدوى سريعاً بين الجرذان، وتكون وسيلة العدوى بينها، كما ذكرنا، البراغيث، وعند إصابة الجرذ بالطاعون، تتركه البراغيث لعدم ملاءمته لها حينئذ، إما بسبب ما فيه من حمى أو بسبب نفوقه فيدفعها الجوع للبحث عن غيره من الجرذان السليمة، فإن لم تصادف عائلها المعتاد، فإنها قد تصادف إنساناً، وسرعان ما تتعلق به وتنقل إليه ما تحمله من عصبيات الطاعون، وتكون النتيجة إصابة الإنسان بالطاعون الدملي، والطاعون مرض معد شديد الخطورة، وفترة حضانته من 2-10 أيام بمتوسط 7 أيام، ويصاب المريض بالتهاب الغدد اللمفاوية وحالة من التسمم مع ارتفاع درجة الحرارة، وبقع نزفية مع عدم استقرار المريض وإعياء واضطرابات عصبية وهذيان ثم غيبوبة .

قصص البحرين:- بمجرد أن تنطق بكلمة طاعون يجفل كل من يجلس بجانبك، وخاصة كبار السن الذين سمعوا الكثير من قصصه، وبعضهم عاصره ورأى ويلاته، وسجلت أميلي زويمر التي كانت تعمل بمستوصف النساء التابع للارسالية الأمريكية في البحرين مشاهداتها لما حدث في المنامة عام 1903 عندما أصيبت المدينة بمرض الطاعون . تقول زويمر مع بدء القيظ هذا العام، وازدياد الحرارة ازدياداً ملحوظاً وتحديداً في شهر مايو/أيار، انتشر في البحرين مرض الطاعون، ولكن مع وجود الحجر الصحي، أصبح وصول الطاعون بواسطة المسافرين أو البريد مسألة شبه مستحيلة خلال السنوات الست الماضية، وأكثر من ذلك، فإن جرز البحرين استطاعت النجاة بأقل الخسائر من عدوى هذا المرض المخيف، وعند انتشار المرض في مدينتي المنامة والمحرق، أصاب الناس رعب كبير، وفجأة ازداد عدد زوار المستوصف حتى امتلأ، كما لم يكن هناك موطئ قدم في مستوصف النساء الذي كان في السابق لا تزوره سوى ندرة من النساء، وقد بدأت حكاية المرض بشائعات انتشرت في البلاد عن قيام أحد الأطباء بنشر مصل سام في المنامة، وراجت مع هذه الشائعات، شائعة أخرى تحدثت عن أنه قام بذلك لقتل جميع المسلمين، والإبقاء على المسيحيين فقط، ومهما كانت درجة تصديق الناس لتلك الشائعات، إلا أن أكثر ما كان يخيف الناس حينها هو المرض نفسه، لذلك، تحدى الكثير من رجال ونساء الطبقات الفقيرة المعارضين لوجودنا كإرسالية، وجاءوا يبحثون عن مساعدتنا، وسررنا كثيراً لمساعدتهم على الضيق والبلاء الكبيرين، على الرغم من أنه كان من الصعب جداً ضمان شفائهم تماماً، وفي الواقع، فإن أهم المشكلات التي واجهتنا، هي عدم وجود أي معسكرات لعزل المصابين كما لم تكن هناك أي مساعدة حكومية، فكان يجب على كل مريض يصاب بالطاعون أن يبقى في بيته، بينما نقوم نحن بالذهاب لمعالجة المصابين من بيت إلى بيت في كل صباح حاملين معنا الضمادات والمنبهات والأدوية المقوية، وفي كل يوم تقريباً، تضاف إلى قائمة المصابين بالطاعون حالات جديدة، وفي الأيام الأولى توفيت ثلاث نساء كن تحت العلاج، ولم نستطع عمل شيء لهن، فقد أحضرن إلينا، وكن في حالات لا تخلو من الخطر عندما أصبن بالطاعون، وكثيراً ما واجهنا تلك المشكلة مع هذه الحالات الصعبة للنساء اللواني يصبح علاجهن صعباً أيضاً، ولا سيما اللواتي يعشن في أكواخ صغيرة خانقة وحارة جداً، ولا توجد فيها أي منافذ للتهوية، علاوة على قذارتها، كما كانت مشكلة علاج الناس بالأدوية الشعبية أو الأعمال التي يقوم بها مشعوذون قضية أخرى، أسهمت في كثير من الأحيان في خلق الكثير من الصعوبات أمام العلاج، فعندما نقوم بإعطاء المرضى بعض الحليب والحساء مثلاً، فإنهم يقومون في الحال بالسؤال عما إذا كان هذا لن يتسبب بزيادة مرضهم، وهذا السؤال يرجع طبعاً إلى بعض الاعتقادات السائدة عند الناس، وعلى الرغم من هذه المشكلات كنا في الواقع سعداء بمعالجة هذه الأعداد الكبيرة من الناس، وكان أكثر ما يفرحنا هو شفاء بعض المرضى وعودتهم إلى بيوتهم، وفي نهاية شهر يونيو/حزيران ،1903 توقف انتشار مرض الطاعون، ونجت البحرين منه بأقل الضحايا، وعندها وجدنا فرصة لقليل من الراحة، توقفت مع وصول مرضى جدد، ففي أحد الأيام، حضرت إلى المستشفى امرأتان كبيرتان في السن من الإحساء، إحداهما جاءت للبحث عن إمكانية إعادة البصر لعينيها المصابتين بالعمى منذ 6 سنوات تقريباً، ولم نستطع القيام بشيء من أجلها لصعوبة الحالة، وكنا نسعفها ببعض الأدوية المخففة للآلام فقط، وكانت هذه المرأة جريئة وثرثارة جداً، إذ طالما تبعتني في غرف المستوصف سائلة مئات الأسئلة: كيف آخذ أدويتي؟ ومتى؟ وأين؟ ومتى أعود مرة أخرى؟ وعشرات الأسئلة التي لا تنتهي، وبجانب المرأتين العجوزتين كان لدينا في المستشفى 10 أطفال يعانون من التهابات في عيونهم، وجاؤونا في صباح أحد الأيام في مجموعة واحدة، واشتكوا من مرض واحد، وفي الحال أوقفناهم في طابور منتظم ورحنا نغسل عيونهم ووجوههم، وقمنا بعد ذلك بصب قطرات من الغسول الطبي على عيونهم، ولأنهم جميعاً كانوا من الفقراء، فقد قمنا بتوزيع عملة نحاسية تساوي نصف سنت لكل واحد منهم لجعلهم يشعرون بالسعادة وهم ذاهبون إلى بيوتهم، والأهم هو تخفيف الألم عنهم، وإلى جانب هذه الحالات التي نعتبرها حالات بسيطة، نواجه أحياناً بأمراض نسائية غريبة لم نر مثلها قط، ففي أحد الأيام، جاءت شابة تعاني آلاماً فظيعة، واكتشفنا بعد الفحص أن بطنها وظهرها مليئان بالجروح والتقيحات، وكان جسمها مشوهاً على نحو لا يصدق، واحتاج علاج هذه المرأة إلى الكثير من الوقت والجهد، وساعدتني في علاجها الآنسة دبيريه التي تذهب إلى المرأة، وقمت بتجهيز الضمادات ووضعها على حمار الصبي الذي يحضر إلى المستشفى كل يوم من قبل أهل المريضة، وكان من ضمن الأدوية التي وضعناها محلول الفينول وعندما أعطيته للصبي، قلت له: خذ هذا، فأجاب في الحال: لا، أنا لا أشرب الشاي، طبعاً استغرق الأمر بعض الوقت لأشرح ما أقصده .

المشكلة الرئيسة في الأوبئة أنها تعود من جديد وبقوة بعد أن يطمئن الناس إلى انتهاء الوباء، ومثلما حدث مع الكوليرا، كان الطاعون ذلك المرض المرعب، يضرب المدن التي سبق أن ضربها، أو يزور مدناً جديدة لم تره من قبل، ولا شك في أن الرعاية الصحية في بدايات القرن العشرين كانت مختلفة كثيراً عنها في سنوات القرن التاسع عشر، عندما ضربت الكوليرا مدن الخليج خلال فترات مختلفة مخلفة آلاف الضحايا، فمستشفيات الإرسالية الأمريكية التي انتشرت في بعض مدن الخليج، وقدمت أساساً من أجل التبشير، أسهمت في علاج تلك الأوبئة وتوعية السكان بخطورتها، واعتقد سكان البحرين أن الطاعون الذي ضربها عام 1903 ذهب من دون رجعة، إلا أنه عاد من جديد بطريقة مشابهة لما يحدث في الأفلام الأمريكية عندما يخرج وحش هائل من البحر ويهاجم الشواطئ ثم يختفي ويعتقد السكان أن الأمر انتهى، ولكن يفاجئهم بهجوم جديد بعد فترة عن الزمن، وهذا ما قام به طاعون عام،1907 ففي 21 إبريل/نيسان من ذلك العام، هاجم الطاعون مدينة البحرين بقوة، ويقول تقرير الوكالة السياسية البريطانية في البحرين إن الطاعون انتشر بشكل خطر للغاية فيها، الأمر الذي نجم عنه وفاة 2000 شخص تقريباً خلال الفترة من 21 إبريل إلى 5 يونيو/حزيران ،1907 وبمجرد الإعلان رسمياً عن الوباء بدئ في اتخاذ إجراءات صارمة للحد من انتشاره، حيث جرى الالتزام بالحجر الصحي بجميع موانئ الخليج المقابلة للبحرين، وفي البحرين ذاتها، تم التفتيش على جميع المسافرين قبل صعودهم لمتن السفن، وهنا انتشرت الشائعات . وقبل أن نكمل تقرير الوكالة البريطانية، سنتوقف قليلاً عند موضوع الشائعات، ففي كل وقت ينتشر فيه وباء ما تنتشر معه، وينسج السكان الكثير من القصص والحكايات عن أسباب المرض، ويبدأ الرواة في التفنن بصياغة الروايات وأبطالها ويبدأ اختراع مسببات للمرض، وهنا ترجع الأسباب إلى عوامل دينية أو اجتماعية أو غيرها، ويتم وضع أرقام وهمية لأعداد الضحايا، وكيف أصيبت تلك المنطقة، أو ذلك الحي الذي لم يبق أحد من سكانه، ويتبرع آخرون بنقل تلك الشائعات بعد إضافة المزيد من المعلومات والأرقام . والشائعات بحد ذاتها تعتبر مرضاً اجتماعياً عانت ومازالت تعانيه المجتمعات، وخاصة التي تعتمد على نقل الرواية والتلذذ بنشرها . وعند تفشي الطاعون في البحرين عام ،1907 انتشرت الشائعات كالعادة، ويقول التقرير البريطاني لدى سماع الشائعات عن تفشي الوباء، سارع كثير من الفرس المقيمين في البحرين بالهرب حاملين الوباء معهم، ولحسن الحظ فإنه باستثناء عدد قليل من الأشخاص الحاملين للعدوى ممن رحلوا إلى داير، فإن جميع المتبقين تم الإمساك بهم واحتجازهم في مراكز الحجر الصحي، وفي ميناء بوشهر على الجانب الفارسي، كانت هناك 16 حالة مصابة بالطاعون في أوساط المهاجرين، توفي منهم 9 أشخاص أما في مدينة لنجة الفارسية فتم اكتشاف 3 حالات ووفاة ثلاث، وأبدى حكام منطقة الخليج تعاوناً جيداً مع سلطات الحجر الصحي ولم يتم السماح بدخول أي سفن قادمة من الجانب البحريني لإنزال مسافرين أو تفريغ شحنات في موانئ المنطقة دون احتجازها أولاً من قبل مراكز الحجر الصحي، وتطبيق الإجراءات الصحية ثم منح السليم منها شهادة خلو من الوباء من قبل السلطات الصحية، وبالنسبة لمنطقة داير التي وصل إليها بعض المصابين، رفض الخان إطاعة الأمر الموجه إليه (منطقة داير تقع في الأراضي الفارسية)، ونتح عن رفض الخان التعاون مع السلطات الصحية اشتداد انتشار المرض في تلك المنطقة، وهذا أدى بدوره إلى عزل منطقة داير واتخاذ الإجراءات اللازمة على الفور لمنع انتشار المرض انطلاقاً من هذه المدينة وتم اكتشاف حالتي إصابة بالوباء في البصرة في 2 يونيو/حزيران 1907 .

هوامش

1- د . أحمد طلعت عدوي، الأمراض المشتركة بين الإنسان والحيوان، الجزء الأول، الدار المصرية اللبنانية - القاهرة، ط،1 ،1998 ص 319 - 320 .

2- د . حسان جعفر، الأمراض المعدية، دار المناهل، بيروت، ط،1 ،1998 ص 67 .

3- د . ربيع السيد صالح حسين، الأمراض التي تنتقل من الحيوان إلى الإنسان، جامعة الملك سعود الرياض، ،1997 ص 22 .

4- صدمة الاحتكاك: حكايات الإرسالية الأمريكية في الخليج والجزيرة العربية 1982 - ،1925 إعداد وترجمة خالد البسام، دار الساقي، الطبعة الأولى ،1998 بيروت، ص 81 .

5- Administrtion Report Of The Persian Gulf Political

Residercy vol . pp . 18 -19 and The Maskt Political Agency

for the Year 1907 - 1908, the Persian Gulf Administrtion

Report .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"