عادي
المقاومة في وجه الإمبراطورية

تاريخ الشعوب في الحرب العالمية الثانية ... (3-3)

00:20 صباحا
قراءة 12 دقيقة
تأليف: دوني غلوكستين - عرض وترجمة: عبدالله ميزر

يكشف هذا الكتاب تاريخ صراع الشعوب في الحرب العالمية الثانية، خاصّة أنّه حتّى الآن، ركّزت أغلب الروايات التاريخيّة على الصراع بين دول المحور ودول الحلفاء حيث كان الهدف الهيمنة الإمبرياليّة .

يبين غلوكستين أنّه في الحقيقة بين عام 1939-1945 تمّ خوض حربين منفصلتين، واحدة من الأعلى (حرب القوى الإمبرياليّة) والثانية من القاع (حرب الشعوب) .

ويسلّط الكاتب الضوء على النضال الشعبيّ بأشكاله المختلفة وحركات المقاومة التي ولدت خلال الحرب العالميّة الثانية، وكيف أنّهم لم يحاربوا فقط الفاشيّة، بل الاستعمار والإمبراطوريّات، ويشير إلى الخيانة التي لقيتها الشعوب من قوى الحلفاء في نهاية الحرب .

يكشف هذا الكتاب الغني حياة أولئك الذين خاضوا معارك في الخفاء والأسباب التي دفعتهم إلى خوض هذه الحرب، كما ينعكس على واقع الشعوب في الدول العربيّة التي شهدت ثورات، حيث ثارت لأجل الديمقراطيّة وتحسين الظروف المعيشيّة وحقوق الإنسان، في حين سعت وتسعى القوى الإمبرياليّة إلى ركوب الثورات وتوجيه دفّتها بما يخدم مصالحها ومصالح الكيان الإسرائيليّ في منطقة الشرق الأوسط، ولتتعرّض الجماهير بعدها لخداع تاريخيّ كبير شديد الإيلام . وقد استفاد الكثير من المحلّلين الغربيّين من موضوع هذا الكتاب في تحليل الراهن في دول الربيع العربيّ .

إنّ ما قدّمه غلوكستين بحق في كتابه الموجز هذا عن حرب كبرى وواقع ظلاميّ عاشته شعوب الإنسانيّة في فترة عصيبة من التاريخ الحديث، مفعم بالمآسي والفواجع البشريّة من دون أن يخلو من الأمل .

الكتاب صادر عن دار النشر البريطانيّة بلوتوبرس، ويقع في 267 صفحة من القطع المتوسط، والمؤلّف أستاذ جامعيّ في كليّة ستيفنسون، أدنبرة، بريطانيا، له العديد من المؤلّفات .

كانت سلطة الدولة العسكريّة في العصور الوسطى غير مركزيّة، حيث كان البارونات يقودون الجيوش المحليّة في علاقة سائبة مع الملك . وكانت الحروب تتضمن أرقاماً صغيرة بسبب وسائل النقل البدائيّة، كما رأت الحكومات المركزيّة الضعيفة أنّ الجيوش الوطنيّة الكبيرة لا يمكن تجميعها بسهولة ولا تقديم الإمدادات لها على أساس طويل المدى . وقد تغيّر الوضع عمّا كان عليه في عام ،1789 حيث ولد نظام الدولة الحديثة مع الثورة الفرنسيّة، التي كان شعارها: الحرّيّة، المساواة، الأخوّة . وتضمّنت الأخوّة فكرة أنّ الحرب كانت لأجل الشعب (أو على الأقل الحرب الدفاعيّة، ولتوصف كلّ الحروب من ذلك الوقت على أنّها دفاعيّة)، إلا أنّ الأمر بدا غامضاً على نحو كبير .

سنة 1789 أحدثت ثورة في المؤسّسة العسكريّة، حيث الأنظمة الملكيّة الأوروبيّة المتجمّعة كانت قد تعرّضت للصدّ من قبل تحالف متين بين الحكومة الفرنسيّة والشعب . وكانت التعبئة الجماهيرية تشكّل قاعدة لجيش نابليون، الذي أظهر تأثيراً بعدده الكبير، وحينها كان الأرستقراطيّون يقودون قوات المرتزقة التي أحبطت أمام القوة النابليونيّة الساحقة، وفي عام 1812 هزم مئات الآلاف من الجنود على الأقدام وظهور الجياد الروس في بورودينو، وتمكّنوا من السيطرة على موسكو . إلا أنّ الجيش الكبير لنابليون دمّر بسبب انعدام خطوط الاتّصال، والطقس السيئ، والتضوّر جوعاً، ونجا من جيش يقارب ربع مليون 90 ألفاً فقط، وحينها كان نابليون قد علّق بلهجة حزينة: جيش يسير على بطنه .

وقد انفجرت الثورة الصناعيّة في القرن التاسع عشر عبر هذه العوائق الفنيّة، وساعدت الطرق الحديديّة على نقل القوّات والمعدّات بشكل سريع وتوسّع نطاق الحرب بشكل تصاعديّ، وهذا ساعد على نشوب المعارك الأكبر في القرن التاسع عشر: غيتسبيرغ (1863)، سادوا/كوينغراتز (1866) . وخلال الحرب العالميّة الأولى نشرت روسيا جيشاً مؤلّفاً من 61 مليون جندي، وألمانيا نشرت 13 مليون جنديّ . كما أنّ التسليح أصبح مميتاً على نحو أكثر، وتطوّرت نوعيّة الأسلحة والمدى الذي يمكن أن تصل إليه .

وخلال الثورة الفرنسيّة، لم يكن أحد يعرف إذا ما كانت لغة الحرب الوطنيّة للناس ستكون بديلاً متيناً أو اعتمدت على أزمة سياسيّة محدّدة، صراع الحياة والموت بين المجتمع الأرستقراطيّ والقوّات الحديثة .

أمّا في القرن العشرين، فقد تمّ القضاء على التهديد الذي كان يسمّى النظام القديم أو النظام الأرستقراطيّ، والرأسماليّة (في مرحلتها الإمبرياليّة الآن) كانت قد تأسّست بشكل كامل . وفي أوروبا كانت القوميّة تستخدم بقوّة لإحداث التفريق بين الطبقة العاملة وحكمها، وكان الاستغلال من الرأسماليّين المحليّين يشبه الاستغلال الذي قام به الرأسماليّون الأجانب، ولذلك كان مفترضاً أنّ استعداد الناس العاديّين للتضحية بأنفسهم في الدفاع عن دولتهم سوف يتراجع . وقادت الطبيعة الافتراسيّة للمنافسة الرأسماليّة والدول الرأسماليّة العديد من الناس إلى دعم حكوماتهم الوطنيّة ضدّ الاعتداء الخارجيّ .

بدأت الحرب العالميّة الأولى بحماسة كبيرة، وقد رمز إليها بالشعار المشهور لكيتجينير: بلادك تحتاج إليك . مع ذلك، في عام 1918 كان الملايين متفقين مع البيان البلشفيّ: إنّ الوطنيّة الرسميّة هي قناع للمصالح المستغلّة . وكان الفصل بين الحكومات والشعوب قد توضّح في الثورات التي انتهت بإبعاد الحكومات في روسيا، وألمانيا، والنمسا . وفي تلك الأثناء، كانت التمرّدات والإضرابات الجماعيّة واحتلال المصانع أمراً شائعاً في البلدان المنتصرة . ولم تخلق الحرب العالميّة الأولى حرب الشعوب إلى جانب حرب إمبرياليّة، بل أحدثت العكس: انتفاضات الشعوب لوقف حرب إمبرياليّة .

اختلاف الحرب العالميّة الثانية

يشير الكاتب إلى أنّ الحرب العالميّة الثانية اختلفت عن الحرب العالمية الأولى بشكل كبير بعدد من الطرق:

* أولاً: بسبب الذاكرة المفزعة للأعوام 1914-،1918 والوعود الشكليّة بالقيام بإصلاحات ما بعد الحرب، والأزمة الاقتصاديّة-الاجتماعيّة داخل الحرب تركت تأثيراً عميقاً في الناس العاديّين، وفي عام 1939 علمت الحكومات المتحالفة أنّ تكرار المناشدات التبسيطيّة للوطنيّة سوف تفشل . لذلك أكدت في وثيقة مثل الميثاق الأطلنطيّ، أكّدوا فيه على النضال لأجل الحريّة بإصرار، وأسرفت في الوعود لإجراء التحسينات لفترة ما بعد الحرب، وكان الهدف دمج طاقات السكان وتجنّب تكرار ثورات 1917-1919 . لذلك فإن نوايا الحكومات المتحالفة لم تكن أقلّ إمبرياليّة ممّا عليه من قبل، وتوقّعات الناس بالحريّة والإصلاح كانت على مستوى أعلى أكثر خلال الحرب العالميّة الأولى وأكثر صعوبة على الكبح .

* ثانياً: أسّست الشيوعيّة والفاشيّة سياقاً إيديولوجيّاً جديداً . فقد كانت الفاشيّة بوضوح محاولة مضادّة للثورة لكسر تنظيم الطبقة العاملة في الداخل، وأيضاً سياسة التوسّع العدوانيّ على حساب القوى الإمبرياليّة المتأسّسة . كان العنصر الأوّل جديداً ودفع بالناس العاديّين إلى مواجهة الفاشيّة ودعم حريّاتهم وحقوقهم . والعنصر الثاني لم يكن جديداً، وبهذا المعنى، فقد كانت الحرب العالميّة الثانية مثل الحرب العالميّة الأولى، موجة أخرى من التسابق إلى الأفضليّة التنافسيّة .

* ثالثاً: كانت هناك اختلافات على المستوى العسكريّ، فالحرب العالميّة الأولى غالباً ما تضمّنت حرباً واسعة النطاق أسّست بوضوح جبهات عسكريّة ساكنة جداً ومحدّدة . كما أنّ تقنيات حرب البرق أو ما يسمّى الحرب الخاطفة جعلت الحرب أكثر تنقّلاً، وجلبت القصف الجوّي، وصار التحكّم في الملايين . وكانت النتيجة حدوث المجاعات ومتابعة وتعقّب القوّة البشريّة، خاصّة الشباب، للانضمام إلى الفرق التحزبيّة . ويشير الكاتب إلى أنّ القصد من آليّة عدوان قوات المحور في الحرب العالميّة الثانية، سواء في قصف لندن أو تحت الاحتلال المباشر، كان أنّ القتال لن يبقى من مهمات الحكومات وحدها، بل أصبح ضرورة ملحّة للناس العاديّين .

* رابعاً: كانت سيطرة قوات المحور على مساحات كبيرة من الأراضي يرافقها عادة ظهور الخونة . وكانت غريزة البقاء لدى الطبقة الحاكمة مستكملة برغبتها في دفع الشرطة النازية الغيستابو إلى تدمير حركات الطبقات العاملة . ومثل هذا التعاون عطّل الوهم الوطنيّ والهيمنة الإيديولوجيّة التي تتمتّع بها الرأسماليّة عادّة . حتّى إنّ هذه الطبقات الحاكمة التي فضّلت إمبرياليّة التحالف خافت تعبئة فقرائهم . وكانت النتيجة سياسة الانتظار والترقّب التي تركت فضاء لقوى جديدة لتزدهر . في آسيا، أحد العوامل الإضافيّة كان الهجوم السريع لقوات المحور في أوروبا الذي أضعف الدول الكولونيالية وفتح مشاهد جديدة للاستقلال .

يرى الكاتب أنّ حرب الشعوب لم تكن حصراً على حركات المقاومة وحدها . فالملايين في الجيوش التقليديّة كانوا مصمّمين على مواجهة ظلم قوات المحور (ضمناً الظلم بشكل عام) . وكان هذا الأمر واضحاً ومفهوماً بالنسبة لحكومات التحالف التي ارتدت بشكل جماعيّ عباءة معاداة الفاشيّة . ويشير إلى أن السلاح الأخلاقيّ القوي الذي تسلّح به الناس ووقفوا به إلى جانب الحقّ استخدموه في وجه ألمانيا، وإيطاليا، واليابان، ولكن تمكّن من التوجّه إلى قوات التحالف أيضاً .

هل هي حرب إمبرياليّة أم حرب شعبيّة؟

في إجابة عن السؤال: هل كانت الحرب العالميّة الثانية حرباً إمبرياليّة أم حرب شعبيّة؟ يشير الكاتب إلى أنّ الحرب كانت إمبرياليّة وشعبيّة في الوقت عينه . إلا أنه لايقصد أنّ هذا التوازن بين الحربين كان نفسه في كلّ مكان، فالاختلافات كانت بشكل جزئيّ نتيجة لجهات متحيّزة مثل الشيوعيّين . في الوقت الذي كانت اتفاقيّة هتلر-ستالين (1939-1941) سارية، أعلن الحزب الشيوعيّ الأستراليّ أنّ الحرب العالميّة الثانية هي حرب إمبرياليّة، إلا أنّهم انتقلوا بسرعة إلى تزعّم حرب الشعب بعد عملية بارباروسا (غزو الاتّحاد السوفييتي) . وساعدت هيبة الارتباط مع الجيش الأحمر المنتصر على خلق طاعة قويّة لهم فيما بعد . كما أنّ رغبة الشيوعيّين في أخذ زمام القيادة نبع من التزام حقيقيّ بالعدالة والتقدّم الاجتماعيّ . مع ذلك، كان هذا مخلوطاً بالتزام قادتهم الخانع لموسكو التي أثبتت دائما أنّها تلحق أذى بكّل الحركات التي عملت الكثير لتبنّيها . وفي رأيه، هذا لايعني أن حرب الشعب كانت تركيباً معالجاً بطريقة شيوعيّة . ويبين أنّه من المهمّ تذكّر حركات متنوّعة مثل حركة العصيان المدني في الهند (1942)، التي دعا إليها المهاتما غاندي، واعترضها الحزب الشيوعيّ حينها، وكذلك مقاتلو انتفاضة وارسو (1944)، وحملة النصر المضاعف (1942)، التي دعا إليها الأمريكيّون السود، حيث دعوا إلى النصر على الفاشيّة في الخارج، وعلى التمييز العنصريّ في الداخل .

ويشير الكاتب إلى أنّ العوامل الموضوعيّة أيضاً لعبت دوراً، فالبلدان التي وقعت بين التكتلات الإمبرياليّة (يوغوسلافيا، اليونان، بولندا، لاتفيا) قدّمت أكبر تنوّع في العلاقات بين حرب الشعب والحرب الإمبرياليّة .

فكما رأينا في يوغوسلافيا، خاف ميهالوفيتش من أن يكون المحاربون أكثر من العدو، فقام بالتواطؤ مع الأخير . ولم يترك هذا للروس والبريطانيّين سوى خيار صغير وهو العودة إلى محاربي تيتو كالقوة الوحيدة التي تتحدّى قوات المحور . وبالتالي في النهاية، حرب الشعب والحرب الإمبرياليّة كانتا تمشيان معاً . أمّا في اليونان، فقد تلقّى جيش التحرير الشعبيّ اليونانيّ بعض الدعم من الحلفاء . منذ أن وقّع ستالين وتشرشل اتفاقيّة النسب أو ما يسمّى الوثيقة الشريرة لتقاسم النفوذ في أوروبا الشرقيّة، وخصّصا اليونان للمعسكر البريطانيّ، وقام تشرشل بقصف أثينا وأعاد فرض الملكيّة المكروهة . وقد كانت المعارضة بين الحربين إجماليّة وعنيفة . وفي بولندا، كانت المناورة القاسية لستالين، والطبيعة العشوائيّة للعنف النازيّ، قد ساهم في توحيد هذه الأقطاب المرتبطة بالإمبرياليّة مع جموع السكّان، في مشروع مشترك . كانت النتيجة انتفاضة وارسو، التي عكست نوعي الحرب، التي تركهما ستالين للانتقام الألمانيّ . ولاتفيا كانت مسحوقة جداً بين الكتلتين الإمبرياليتين الخصمين، التي اختار سكانها أن يكونوا مع بديل أو آخر من إحدى البدائل المروّعة . لذلك، حرب الشعب لم تتحقّق على الإطلاق .

انقسامات

في أراضي قوات الحفاء كان من الصعب أحياناً أن تضع الاختلاف بين الذين يحاربون الفاشيّة والذين يدعمون الإمبراطوريّات . بالنسبة للولايات المتحدة، كان الانصداع إلى جانب الخطوط الإثنيّة في الشغب والصدامات المسلّحة في الداخل . وفي بريطانيا، أكّدت نتائج الانتخابات العامّة في 1945 أنّ السكان والطبقات الحاكمة كانت تقاتل حرباً متوازية منفصلة . وقد ظهرت الهوّة الأكبر في فرنسا، حيث لم تنقسم الطبقة الحاكمة فقط بين ديغول وبيتان، لكنّ المقاومة تطوّرت بشكل مستقلّ من الاثنين .

أمّا الوضع في دول المحور فكان مناسباً على نحو أقلّ للحروب المتوازية . ففي ألمانيا، ظهرت معارضة من الطبقة الحاكمة عندما أصبحت مصالح البلاد الإمبرياليّة في موقع خطر . ولم ترحّب بحرب الشعب . علاوة على ذلك، فقد قيّد القمع التحرّك الجماهيريّ من الأسفل، وظهر فقط لاحقاً، بعد أن تحطّم النظام النازيّ من الخارج . ثمّ ظهرت الحربان كصدام بين الحلفاء والمقاومة المعادية للفاشيّة . ربّما حدثت عمليّة مشابهة في النمسا، في محاولة لفصلها من ألمانيا، لم يربط الحلفاء طبقتها الحاكمة (على الرغم من سجلها السيئ في الفاشيّة والتواطؤ) مع قضيّة معاداة النازيّة . لذلك كان صعباً لحرب لناس أن يحققوا تقدّماً هناك .

ويجد الكاتب أنّ إيطاليا كانت الاستثناء، لأنّ قبضة موسوليني تلاشت قبل أن يتمكن الحلفاء من الوصول إلى الشمال . لذلك حرب الشعب استطاعت أن تشكّل تحدّياً فعّالاً لكلّ من المحتلّين النازيّين والمتواطئين من جمهوريّة سالو أو الجمهوريّة الإيطاليّة الاشتراكيّة (1943-1945) بقيادة موسوليني . على الرغم من أنّ الجنرال إلكسندر اقترب من دعوة النازيّين إلى تدمير لجنة التحرير الوطنيّة الإيطاليّة التي كانت كياناً سياسيّاً سريّاً من المحاربين الإيطاليّين خلال فترة الاحتلال النازيّ الألمانيّ لإيطاليا في الفترة الأخيرة من الحرب العالميّة الثانية، وكانت قد تفكّكت بعجالة عندما انتهت الحرب، وبقيت المقاومة الإيطاليّة أسطورة سياسيّة دائمة .

الهند: من المجاعة إلى الاستقلال

يشير الكاتب إلا أنّه في يوم 3 سبتمبر/أيلول من عام 1939 استفاق الشعب الهنديّ ليكتشف أنّه في حالة حرب، وحينها لم تزعج لندن نفسها وتسأله بخصوص الموافقة على خلاف أستراليا وكندا، عندما أخبر تشرشل مجلس العموم الهنديّ أنّ الهند تملك جزءاً كبيراً يمكن أن تلعب به في صراع العالم لأجل الحرّيّة، ويبيّن الكاتب أنّه لم يضمّن الاستقلال لأجل 400 مليون هنديّ .

يبين الكاتب أنّ إحدى نتائج الصراع على الحريّة أحدثت مجاعة بنغلاديش في عام ،1943 وقال الحاكم البريطانيّ حينها إنّها من أعظم الكوارث التي حدثت لشعب تحت الحكم البريطانيّ، حيث حصدت هذه المجاعة أرواح ما يقارب 5 .1 أو 5 .3 مليون شخص، وكانت الجثث مرميّة في الشوارع والمنازل، وانتشرت أمراض مثل: الكوليرا والجدريّ ناهيك عن الموت جوعاً، كما ازدادت حالات الانتحار وبيع الأطفال في الأرياف .

كانت هذه المجاعة بحسب الاقتصاديّين مرتبطة بدخول الهند في الحرب العالميّة الثانية، لأنّه بعد أن بدأت الحرب، بقي 11 ضعفاً من عدد الجنود المعتاد تواجدهم في الهند، وكلّ تموينهم كان على نفقتها . ورغم التحذيرات المتوالية من المسؤوليين الهنود من استمرار المأساة، إلا أنّ ذلك لم يأتِ بنتائج .

ويشير الكاتب إلى أنّ الحرب الإمبرياليّة كانت كارثيّة على الهند، ولم يكن لها بوضوح علاقة مع الأهداف الإنسانيّة المعلنة، وحينها أشار جواهر لال نهرو، العضو البارز حينها في المجلس الوطنيّ الهنديّ، إلى أنّ لندن تدافع ببساطة عن الإمبراطوريّة البريطانيّة . وتشرشل لم يتّفق مع ما ذهب إليه نهرو قائلاً: لم أصبح وزير الملك الأوّل كي أشرف على تصفية الإمبراطوريّة البريطانيّة .

ويتحدّث الكاتب عن تفاصيل الحركات الاحتجاجيّة في الهند والمطالبة بالاستقلال، خاصّة العصيان المدنيّ، الذي قاده غاندي، والصراع مع اليابان، التي كانت قد نشرت قواتها، ودخلت في معارك مع الجنود الهنود .

ويشير الكاتب إلى أنّه في نهاية الحرب العالميّة الثانية، ظهر كما لو أنّ الحرب الشعبيّة قد فشلت، إلا أنّ الأمر كان مخادعاً، حيث نطاق حملة العصيان المدنيّ في عام 1942 أقنعت بريطانيا أنّ حرية المستعمرة باتت أمراً حتميّاً . ونصح الحاكم البريطانيّ تشرشل أن يحبط المشكلات المستقبليّة مع مجلس الشعب الهنديّ، وأن يقوم بالمفاوضات قبل انتهاء الحرب، التي ستجلب عليهم تحرير السجناء وإحداث الفوضى والشغب .

ويرى الكاتب أنّه في أوروبا وأمريكا، كانت الحربان تجريان بشكل متوازٍ، لأنّ كلتيهما واجهت العدوّ نفسه، وإن كان لكلّ منهما دوافعها المختلفة . أمّا في الهند فقد اختلف الأمر، والحربان المتوازيتان كانتا تمضيان في حالة من البطء منذ البداية . ومع ذلك، فإنّ الأحداث التي هزّت شبه القارّة كانت فقط بنفس القدر الذي أنتجته الحرب العالميّة الثانية في أماكن أخرى، ولابدّ أن تعامل على هذا النحو بحسب ما يذكر الكاتب .

ويشير الكاتب إلى أنّه في آسيا بشكل عامّ، كانت العلاقة بين الحرب الإمبرياليّة وحرب الشعب محدّدة بالقبضة الضعيفة للمستعمرين الأوروبيّين والادعاء الزائف لليابانيّين من أنّهم معادين للإمبرياليّة . في إندونيسيا، بعد تردّد من جانب أحمد سوكارنو، الذي قاد نضال بلاده لأجل استقلالها، إلا أنّ حرب الشعب في إندونيسيا دخلت في النزاع المسلّح مع كلّ القوى الإمبرياليّة الموجودة (اليابانيّة، البريطانيّة، الهولنديّة) . أمّا في فيتنام فقد سعى الحزب الشيوعيّ الفيتناميّ إلى الدعم من الحلفاء، لكن بعد فشل الحصول على هذا، انغمس في الضغط الجماعيّ من الأسفل ليخلق نضالاً قويّاً معادياً للإمبرياليّة .

الحاجة إلى استجابة شعبيّة

يشير الكاتب إلى أنّ الحرب العالميّة الثانية هي على خلاف الحروب الأخرى . فقد جلبت رعباً لا يتخيّل من المجازر والإبادة النوويّة، والمجاعات الكبرى، موت المدنيّين على نطاق واسع، إلا أنّها تذكر دائماً على أنّها الحرب الخيّرة التي دمّرت النازيّة والفاشيّة . ويشيد الكاتب كثيراً بآراء المؤرّخ العسكريّ البروسيّ كلاوسفيتس، الذي أظهر أنّ الحرب ليست مسألة تقنيّة بل تعكس تيّارات سياسيّة أعمق، ولذلك هذه الخصائص الثنائيّة للحرب العالميّة الثانية استمرّت بعد 1945 . ويشير الكاتب إلى أنه إذا ما عكسنا هذا الكلام فإنّنا نجد أنّه في أوقات السلم، فالسياسة هي استمرار للحرب، تنفيذ الشيء نفسه بوسائل أخرى . ولذلك، بعد أن توقّفت أصوات المدافع بقي التنافس بين الدول الإمبرياليّة مستمرّاً . وكانت النتيجة الحرب الباردة . من ناحيتها، تحوّلت حرب الشعب إلى صراع ناجح وعنيف في بعض الأحيان لإعادة الاستعمار، بالإضافة إلى حركة لتأسيس دول الرفاه وظروف المعيشة المحترمة .

ويجد الكاتب في النهاية أنّ هذه العناصر لاتزال موجودة في القرن الواحد والعشرين . فالإمبرياليّة تعيش على تدخلاتها في العراق، وأفغانستان وأماكن أخرى، ترافقها مذابح محليّة على الظروف المعيشيّة التي سببها أزمة اقتصاديّة . ولحسن الحظّ، حرب الناس أيضاً تحيا من خلال النضال ضدّ الحروب الإمبرياليّة، معاداة الفاشيّة، معاداة العنصريّة، بالإضافة إلى الدفاع عن شروط الرفاه التي ورثوها بعد 1945 . ويستشهد في الجمل الأخيرة بما قاله مؤخّراً أحد المحاربين القدامى من الحرب العالميّة الثانية: جاءت المقاومة في نقطة معيّنة جدّاً من التاريخ . . .كان على الناس أن يحاربوا وضعاً وجدوا أنّه لم يعد يطاق . لكن اليوم، نحن نواجه أوضاعاً لا تحتمل، وضدّ هذه الأوضاع نحتاج النوع نفسه من الاستجابة الشعبيّة .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"