"لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها"

12:45 مساء
قراءة 4 دقائق

من حكمة الله عز وجل البالغة أن ربط رزقه الذي قدره بأخذ الأسباب له، يستوي في ذلك الإنسان العاقل وغيره من الدواب التي خلقها الله سبحانه، فما من مخلوق ذي روح إلا وهو مغروس فيه السعي لطلب رزقه، نجد ذلك في الإنسان والحيوان والطير وكل هذا يثمر الحركة في الحياة ويجعل حركة الأحياء قائمة على الأخذ والعطاء، كما أن ذلك يجعل المخلوق خادماً ومخدوماً على السواء، وفي هذا يقول سبحانه: نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً (سورة الزخرف: الآية 32) .

يقول محمد خليل الخطيب في كتابه خطب المصطفى صلى الله عليه وسلم: تحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكثير من الخطب عن الرزق وطلبه والتجمل في الطلب والسعي في طلب الرزق، وضرورة الأخذ بالأسباب والعمل من أجل الحصول على الرزق .

وعن حذيفة قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم فدعا الناس فقال هلموا إلي فأقبلوا إليه، فجلسوا فقال: هذا رسول رب العالمين جبريل عليه السلام نفث في روعي أنه لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها وإن أبطأ عليها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تأخذوه بمعصية الله . فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته . (رواه البزار) .

غنى النفس

وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا أيها الناس إن الغنى ليس عن كثرة العرض . ولكن الغنى غنى النفس، وإن الله عز وجل يوفي عبده ما كتب له من الرزق، فأجملوا في الطلب خذوا ما حل ودعوا ما حرم . (رواه أبو يعلي) .

وعن الحسن بن علي قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر يوم غزوة تبوك فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أيها الناس إني ما آمركم إلا بما أمركم الله به، ولا أنهاكم إلا عما نهاكم الله عنه، فأجملوا في الطلب، فوالذي نفس أبي القاسم بيده إن أحدكم ليطلبه رزقه كما يطلبه أجله، فإن تعسر عليكم منه شيء فاطلبوه بطاعة الله عز وجل . (رواه الطبراني في الكبير) .

ويشير الدكتور رمضان المحلاوي في كتابه من أخلاق الإسلام إلى أن النبي عليه أفضل الصلاة والسلام يحث في هذه الخطب على ضرورة أن يعلم الإنسان أن الرزق من عند الله وأن يسعى الإنسان في طلبه، وأن الله عز وجل قد ربط عطاء رزقه بالأخذ بالأسباب والمشي في مناكب الأرض، كما أن المؤمن حقاً هو الذي يعطي للأسباب حقها من الحركة والعمل والفكر ثم هو بعد ذلك يترك ثمرة جهده وسعيه إلى مسبب الأسباب المعطي الوهاب، وهو الله سبحانه وتعالى موقناً بأن ما يقدره الله عز وجل ويريده هو خير وأولى مما يريده لنفسه، وثمرة هذا اليقين سكينة النفس والرضا بما قسم الله عز وجل ولا تتحقق الحياة الطيبة إلا بهذا المعنى، وذلك لأن الحرص على عرض الدنيا مع القلق الشديد لا ريب أنه يؤدي إلى عيشة الضنك، ولهذا حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على غرس الرضا بما قسم الله في نفوس أصحابه وبين لهم بوحي من ربه أن الرزق مقدر بقدر الله كالأجل المسمى عند الله سبحانه، فكل منا يأتيه أجله المسمى عند ربه كما يأتيه رزقه الذي قدر له، فعن جابر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تستبطئوا الرزق فإنه لم يكن عبد ليموت حتى يبلغ آخر رزق هو له فأجملوا في الطلب؛ أخذ الحلال وترك الحرام (الترغيب والترهيب للمنذري) .

هذا الحديث الشريف فيه نهي من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم للمسلمين من الضجر واليأس والقنوط حتى لا يقولوا بتزيين من الشيطان، سعينا فتأخر رزقنا، فكل شيء مقدر والله سبحانه وتعالى يسوق الأرزاق لأصحابها بعدله ورحمته التي وسعت كل شيء، وإذا أعطى الله عز وجل عرض الدنيا لإنسان بقدر وأعطى غيره فبسط له رزقه ففي كل خير لمن قدر له ومن بسط له في الرزق والله عز وجل هو العليم الخبير بما يصلح خلقه، ولهذا بين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأن الغنى لا يتحقق أبداً بكثرة عرض الدنيا، فقد تكون هذه الكثرة سبيلاً إلى التهلكة وخسران الدنيا والآخرة .

توصية وبشرى

إن الحرص على طلب عرض الدنيا من دون ضابط . ورضا بما قسم الله تعالى قد يجر إلى أخذ الحرام، وذلك عن طريق الغش أو السرقة أو الربا أو التجارة في الأغذية المغشوشة أو الكذب على الناس، ولهذا غرس رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفوس أتباعه الإجمال في الطلب بمعنى الأخذ من الحلال وترك الحرام حتى يتطهروا من الرجس والدنايا والمذمومات، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا ترضين أحداً بسخط الله ولا تحمدن أحداً على فضل الله (المعجم الكبير للطبراني)، أي لا يكن رضا أحد بعمل ما يغضب الله سبحانه، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ولا تشكرن أحداً تعتقد أنه ساق إليك رزقاً، فالحمد لله تعالى وحده ولا تذمن أحداً على ما لم يؤتك الله أي لا تخاصم أحداً في طلب عطاء لم يقدر لك .

وأوضح سعيد العيلي في كتابه من لآلئ السنة أن خطب النبي تضمنت أن التوكل على الله يفتح أبواب الرزق فعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فيقول: لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا . وفي هذا الحديث النبوي الشريف توصية وبشرى . . توصية بالتوكل على الحي القيوم، وبشرى للمتوكلين عليه سبحانه حق توكله، بأنه جل جلاله شاملهم برعايته وتأييده، ورازقهم ما يرضيهم، وواهبهم من سنده ما يغنيهم ويكفيهم .

هذا الأمر النبوي الشريف بالتوكل على الله، يلتقي بآيات قرآنية كريمة أمر فيها الوكيل القوي بالتوكل عليه تعالت قدرته، والإنابة إليه وحده .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"