أوروبا - بريطانيا.. علاقات متشابكة

03:07 صباحا
قراءة 5 دقائق
بهاء محمود *

ثمة مقولة تصف وزن بريطانيا بأنها «دولة قوية أوروبية وغير عالمية». هذه المقولة في الحقيقة لا تصف بريطانيا؛ بل من الممكن جرها للدول ال5 الكبار في الاتحاد الأوروبي، وعلى رأسهم ألمانيا.
بريطانيا طوال 47 عاماً، لم تكن أبداً الشريك الصالح، لطالما كانت عضويتها انتقائية، وضد التكامل الأوروبي. فيما تظل أوروبا أهم أسواق التصدير لبريطانيا، وأكبر مصدر للاستثمار الأجنبي فيها. وساعدت عضوية الاتحاد الأوروبي لندن على ترسيخها مركزاً مالياً عالمياً مناصفة مع نيويورك.
يرغب رئيس الحكومة البريطانية بوريس جونسون في عدم العمل بالمعايير الأوروبية، وتفضيل علاقات جديدة تمكن بريطانيا - على حد زعمه - من استعادة السيطرة، وكأن الجزيرة التي تقبع عند كتف أوروبا، خضعت يوماً للقرار الأوروبي. فالتاريخ الحديث يذكر أنه من 2012 وحتى 2014 في حكومة ديفيد كاميرون تمت مراجعات داخلية؛ بهدف إصلاح الاتحاد الأوروبي، من وجهة نظر بريطانيا. تلخصت أهداف المراجعات في: الإدارة التنظيمية؛ القدرة التنافسية؛ السيادة الوطنية؛ والهجرة. بالنسبة للأخيرة عزلة بريطانيا جغرافياً، وعدم وجودها في منطقة شينجن، لم تجعل الهجرة يوماً في حقيقة الأمر معضلة في العلاقات الأوروبية البريطانية. وعلى الرغم من ذلك توافق الاتحاد الأوروبي في فبراير/شباط 2016 مع ما هدفت إليه بريطانيا؛ لكن كاميرون دعا للاستفتاء بعدها بأربعة شهور.

بريطانيا تستفيد من الأوروبيين

يسافر لبريطانيا كل عام نحو 27 مليون مواطن أوروبي، يمثلون نحو ثلثي الزائرين سنوياً لها؛ وهذا يشير بدوره إلى أن زيارة المواطن الأوروبي لبريطانيا، يعد مصدراً جيداً للدخل لدولة اقتصادها قائم على الخدمات. هذا مع الأخذ بعين الاعتبار أن هناك ما يزيد على 3 ملايين مواطن، يقيمون بصفة أساسية. ما بين عامل وشاب وطالب وعجوز، كل أولئك يدفعون الضرائب، ولديهم قدرة شرائية، بعضهم يعد منتجاً، والجميع بالطبع هم من المستهلكين لما يقدم في بريطانيا. بحساب بسيط قد يتواجد في لحظة ما أكثر من 30 مليون مواطن أوروبي في دولة تخطى تعداد سكانها 67 مليون نسمة؛ لذلك يمثل التفكير في مصير المقيمين ما بعد الفترة الانتقالية محدداً قوياً في رسم شكل العلاقات الأوروبية - البريطانية، بصرف النظر عن التطمينات التي تحدث عنها زعماء دول؛ مثل: المجر وبولندا وغيرهما من الجنسيات الأوروبية.

اتفاقات وخلافات

في المقابل، على الرغم من الحاجة الاقتصادية والتجارية بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، فإن العلاقات في مجملها لا تتحدد في سياق واحد؛ حيث ينظر أولاً في توازنات القوى الحالية والمستقبلية ثم بعد ذلك تعارض المصالح بين الكبار. بريطانيا تربطها علاقات متباينة مع دول جنوب وغرب وشرق أوروبا. من الزاوية الجغرافية تصادف وجود القوتين الأكبر فرنسا وألمانيا في غرب أوروبا؛ حيث إنهما تمتلكان رؤية مختلفة تماماً لإدارة ملف بريكست، ومن ثم العلاقات المستقبلية. فرنسا شريك عسكري لبريطانيا، وبينهما تفاهمات أمنية ودفاعية؛ لكنهما تختلفان حول الناتو، ومنظومة الدفاع الأوروبي.
في المقابل ألمانيا شريك اقتصادي مهم لبريطانيا، وكانت رفيقتها في معسكر تحرير التجارة في الاتحاد الأوروبي أو المعسكر الليبرالي. مع الأخذ في الاعتبار أن ألمانيا وفرنسا فريق واحد ضد بريطانيا في مسائل التكامل الأوروبي.
في جنوب أوروبا تقع إيطاليا وإسبانيا، وهما من الدول ال5 الكبار مع بريطانيا وفرنسا وألمانيا. منذ ثلاث سنوات، إبان عهد الرئيس الفرنسي هولاند، كانت إيطاليا وإسبانيا ضمن الكتلة الحمائية في مواجهة بريطانيا وألمانيا، لكن المشهد تغير، وجاء رئيس فرنسي جديد فتوترت علاقاته مع إيطاليا، والتي من جانبها عدلت موقفها هي الأخرى، لتكن قريبة من بريطانيا؛ بل وتدعمها في المفاوضات الأوروبية، ربما لسيطرة الشعبوية في الدولتين، وأيضاً نكاية بالمحور الألماني - الفرنسي.
على النقيض من ذلك توترت علاقات بريطانيا مع إسبانيا قبيل بريكست على خلفية النزاع التاريخي على منطقة جبل طارق؛ حيث تريد إسبانيا المشاركة في إداراته. الآن رسمياً خرجت بريطانيا ومن الطبيعي أن تشتعل معارك سياسية على جبل طارق. لاسيما وأن إسبانيا تمر حالياً باستقرار سياسي نسبي؛ يمكنها من استخدام ورقة جبل طارق.
في شرق أوروبا تعد بولندا حليفاً مهماً لبريطانيا، وكلاهما (بريطانيا وبولندا)، تؤيدان الولايات المتحدة، وتحاول الدولتان بناء شراكة قوية مع الولايات المتحدة، مع وجود قلق دائم من ترامب. رئيس وزراء بولندا ماتوس موراويكي، في حوار مع القناة الرابعة للأخبار، تحدث عن رئيسة وزراء بريطانيا السابقة تيريزا ماي، منوهاً بأنها قد تعتمد على بولندا في «صفقة بريكست»، وبالطبع نفس الحال ينطبق على بوريس جونسون رئيس وزراء بريطانيا الحالي. من هنا يمكن استنتاج دور الجغرافيا السياسية في مستقبل العلاقات الأوروبية البريطانية؛ حيث إن بريطانيا لا تمتلك وفاقاً تاماً، حالياً، مع كتلة كاملة أو عداوة مع فريق بعينه من الدول؛ بل تعارض المصالح وتغير القيادات السياسية من حين لآخر يصعب من موقف بريطانيا، ولا يجعل القرار الأوروبي أيضاً موحداً.

انتصار للشعبويين

على الجانب الآخر فإن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عند الشعبوية، يعد انتصاراً مهماً، فعلى الرغم من تذبذب حال الشعبوية في كل أوروبا.فإن مفاوضات بريكست ومصيرها ليس فقط محدداً لشكل العلاقات الأوروبية - البريطانية، بقدر ما هو رهان للشعبوية، والتي تترقب أي تحول في المشهد.
إيطاليا على سبيل المثال، على الرغم من تغير التحالف الحاكم وعودة الاشتراكيين لمقاسمة حركة خمس نجوم، فإن الشعبوية تنتظر حصول بريطانيا على مكاسب؛ لتحدد موقفها من الاتحاد الأوروبي؛ وذلك في ظل عدم وجود توتر بين بريطانيا وإيطاليا، لا أوروبياً، ولا عبر تنافس مرتقب في ملفات الشرق الأوسط. المأزق الحقيقي للاتحاد الأوروبي هو وجوده بين مقصلة الشعبوية من جانب، والحاجة لبقاء علاقات متينة مع بريطانيا من جانب آخر. ليس بالطبع تقديم تنازلات بقدر خلق مساحات مشتركة. المعادلة صعبة، لطالما هاجم الشعبويون الاتحاد الأوروبي كمؤسسة منتقصة من سيادة الدول وتنازل في نفس الوقت لبريطانيا في مسائل العملة الأوروبية والهجرة ومنطقة شينجن، وحصة بريطانيا في موازنة الاتحاد الأوروبي.
المأزق يكمن في نهج الإصلاح المنشود للاتحاد الأوروبي، ما بين الرغبة في مواجهة الشعبوية وأفكار مثل الولايات المتحدة، التي يريدها ماكرون وبين الفصل ما بين السيادة الوطنية والديمقراطية المؤسسية للاتحاد. وبالتالي فبريكست والشعبوية، سوف يمثلان كفتي ميزان للاتحاد الأوروبي عليه ضبطهما. بصرف النظر عن نتيجة المفاوضات التجارية حتى تحدد شكل العلاقات بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، يتعين على الأخير توحيد صفوفه، خاصة تشابكية العلاقات بين بريطانيا والدول الكبرى؛ وذلك في ظل أن الكتلة الأوروبية ليست مصممة، ولا قادرة على إنتاج سياسة موحدة بشأن المسائل الاستراتيجية الرئيسية، وتعمل كل القوى على حدة. أما عن بريطانيا فمطالبها لا تبدو منطقية فلا تجارة حرة مثل كندا تعد أمراً منطقياً، ولا التعامل مع الاتحاد الأوروبي بسياسة الضغط قد تجدي نفعاً في عالم متغير ومتجدد القوى.

* كاتب (مصر)

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"