تفاؤل بشأن النمو الاقتصادي الدولي

04:01 صباحا
قراءة 5 دقائق

أشار كارل ماركس في مؤلفاته إلى التأثير الكبير للاقتصاد في تاريخ الإنسان والإنسانية . ويقول إن الحكومة هي في خدمة الاقتصاد، أو بالأحرى هي مجلس إدارة مصالح الدولة . تخطئ الحكومات عندما تؤمّن مصالح الأغنياء والرأسماليين فقط وتتجاهل الفقراء، فتسبب الثورات . قال جون كينيث غالبريث إن التغيرات الاقتصادية تسيطر على التغيرات الاجتماعية والسياسية والعسكرية في الدول . وفي رأيه أن كارثة 1929 حصلت بعد فورة العشرينات في أسواق وول ستريت، تماماً كما يحصل منذ سنة 2008 بعد فورة العقدين السابقين .

بعد سقوط بورصة نيويورك حصل الكساد الكبير في سنة 1929 الذي أدى إلى وقوع الحرب العالمية الثانية . وبعد انتهاء الحرب، حصلت اتفاقية بريتون وودز في الأربعينات التي نظمت الاقتصاد الدولي تماماً كما تحاول مجموعة العشرين فعله نتيجة أزمة الركود الكبير المستمرة . ويتابع غالبريث أن نجاح الولايات المتحدة الاقتصادي يبقى نسبياً، إذ ظهر بعد الحرب العالمية الثانية مع سقوط الاقتصادات الأوروبية . ولا يعود النجاح الأمريكي في رأيه إلى نشاط الأمريكيين، بل إلى أخطاء الأوروبيين وحروبهم خلال القرن الماضي . يقول جون ماينارد كينز إن الأفكار، وليست المصالح هي التي تدفع المجتمعات نحو الأفضل أو الأسوأ . فالذي يجري في المنطقة العربية اليوم لا ينبع من الاقتصاد والفقر فقط، بل من النضوج والتجارب وتغير الأفكار التي حكمت المجتمعات في العقود الماضية أيضاً . هل تتغير مجتمعاتنا نحو الأفضل؟ نأمل ذلك .

تعرف أسواق النمو بتلك التي تمتع بهيكلية سكانية سليمة ومستوى إنتاجية مرتفع يسمحان لها بتحقيق نسب نمو سنوية تفوق المعدل الدولي . وتتمتع أيضاً بالمناخ الاستثماري المناسب والحجم الكبير كما في الأسواق المالية الشفافة العميقة والفاعلة التي تجذب المستثمرين . جيم أونيل المسؤول الكبير السابق في شركة غولدمان-ساكس اخترع تسمية البريك للأسواق الناشئة المؤلفة من الصين والبرازيل وروسيا والهند . وفي كتابه خريطة النمو الصادر هذه السنة بنسخة جديدة، يفسر الكاتب الأسباب التي دعته إلى دمج هذه الأسواق الأربعة في مجموعة واحدة تتمتع بمعايير مشتركة أهمها الحجم السكاني والإنتاجية المرتفعة مقارنة ببقية الدول النامية والناشئة .

هنالك أفكار مهمة في كتابه، منها تمييزه بين الصين واليابان ولماذا نجحت الأولى وفشلت الثانية؟ يقول أونيل إن الصينيين يهتمون أكثر بالشأن الدولي من اليابانيين ويتكلمون الإنجليزية بشكل أفضل . وفي رأيه أن المجتمع الصيني هو أكثر انفتاحاً ويتعاطى مع المجتمع الدولي بشكل فاعل، ولا يختبئ وراء هويته الثقافية كما يفعل اليابانيون . ومن مزايا الصينيين مواجهتهم للحقائق بشكل أفضل ومباشر وشجاع ومعالجتها . في نهاية الثمانينات، رفض اليابانيون مواجهة المؤشرات التي أنذرت بأزمة عقارية كبيرة وبالتالي تجاهلوها فوقعت الكارثة التي ما زالوا يعانونها . في سنة ،2007 تنبه الصينيون إلى إمكانية حدوث أزمة عقارية، فواجهوها بالتقنيات النقدية والمالية المتاحة وبالتالي لم تقع . هذه الطريقة العملية في مواجهة الحقائق والمشكلات هي التي جعلت الصين تواصل نموها القوي منذ عقود . وعانت اليابان كثيراً الانكماش، وها هي تحاول التخلص منه عبر برنامج مالي ونقدي سخي، بينما تعاني الصين التضخم الذي يتفاقم تدريجياً نتيجة النمو القوي وارتفاع الطلب على السلع والخدمات .

هنالك مؤشرات حديثة تؤكد أن نسب نمو مجموعة البريك انحدرت وإن يكن بنسب مختلفة . يقدر نمو الصين هذه السنة ب 5 .7% والهند ب 5% والبرازيل وروسيا ب 5 .2% لكل منهما . ويقدر معدل النمو للمجموعة ب 5% بعد أن قارب الضعف في العقود القليلة الماضية . هذا التباطؤ مهم جداً في الاقتصاد الدولي، إذ يعني أنه لا يمكن الاتكال كالسابق على المجموعة لدفع النمو صعوداً في وقت تواجه المجتمعات الغربية تحديات كبيرة . مشكلة الغرب هو التغير السكاني المقلق وانخفاض العدد مع الوقت كما يحصل خاصة في ألمانيا . هل يمكن للمجتمعات الغربية أن تحافظ على المستوى المعيشي المادي الذي اعتادت عليه عندما ينخفض عدد سكانها وعمالها؟ فمن أين ينبع النمو؟ هل يمكن لها أن تستمر عندما تعتمد سن الستين أو 62 للتقاعد، إضافة إلى عطل سنوية تقارب 6 أسابيع و 35 ساعة عمل في الأسبوع والعديد من الحمايات والحواجز في وجه التوظيف والصرف الفردي أو الجماعي؟ هل يمكن لهذه الدول أن تحافظ على هذا السخاء والرخاء المعيشي في الاقتصاد الدولي المتغير بسرعة؟

ضمن البريك، تنتقل الصين اليوم من مجتمع استثماري بالدرجة الأولى إلى مجتمع استهلاكي . يحصل هذا التغيير في وقت ترتفع خلاله الديون التي مولت الاستثمارات في العقود الماضية . لكن الدولة الصينية قادرة مالياً على مواجهة التغيير، وبالتالي مساعدة القطاع الخاص في هذه الظروف . لا شك أيضاً في أن الهيكلية الصينية السكانية تتغير كما حصل في الغرب، أي ستواجه الصين مشكلة توافر عمالة شابة وقادرة في السنوات القليلة المقبلة ما يؤثر سلباً في الإنتاجية . وتختصر مشكلة البرازيل في تفاقم الفقر والإنفاق العام على التجهيزات الرياضية التي يعارضها البرازيليون الذين يفضلون الإنفاق على التعليم والصحة ومحاربة الفقر . وما زالت روسيا تعاني الفساد وعدم تنوع الاقتصاد واعتماده كلياً على المواد الأولية وافتقاره إلى المنافسة الضرورية للنجاح والنمو . أما الهند فتعاني مشكلات مالية كبيرة نتيجة سوء الإدارة والفساد والإدارات العامة البيروقراطية، ووضعت الحكومة مؤخراً قيوداً على رؤوس الأموال الخارجة لمنع سعر صرف النقد من الانخفاض، ما سبب قلقاً وركوداً في الأسواق .

انخفض معظم نقد الدول الناشئة بسبب الخوف من قرار المصرف المركزي الأمريكي ضبط حجم الكتلة النقدية والوقف التدريجي للتسهيلات الكبرى التي اعتمدت منذ بدء الركود الكبير . خلال الأشهر الثمانية الأولى من هذه السنة، ونسبة إلى الدولار الأمريكي، انخفض كل من النقد الإندونيسي والتركي 10% مقارنة ب 12% للبيزو الأرجنتيني و15% للنقد الهندي و16% للبرازيلي و17% للإفريقي الجنوبي . وحده النقد الصيني ارتفع نسبة للأمريكي في الفترة المذكورة وذلك بنسبة 5 .2% . ما الذي يتوجب على الحكومة الهندية فعله لتجنب سقوط اقتصادي أقوى؟ يجب ترك النقد يأخذ سعره الحقيقي في السوق . دعم النقد لن يفيد في ظروف مالية داخلية متقلبة . على الحكومة تخفيض حجم العجز المالي من الناتج من 10% اليوم إلى 7% وتجنب الوقوع مجدداً في التضخم . مهمة حاكم المصرف المركزي الهندي الجديد راغورام راجان، وهو الأستاذ المميز في جامعة شيكاغو، ضبط التضخم وليس مواجهة سعر صرف النقد في السوق .وعلى الحكومة الهندية أيضاً زيادة رؤوس أموال المصارف المملوكة من القطاع العام كي تخضع أكثر لمعايير السلامة الدولية المعتمدة .

في سنة ،2011 اعتقد البعض أن الاقتصاد الدولي سقط أو حتى انهار . وها هو يعود إلى الحيوية تدريجياً والأخبار السارة هي أكثر من المتشائمة . بعد سنتين من الركود تعود منطقة اليورو إلى النمو . الاقتصاد الأمريكي يتعافى وكذلك الياباني مع برنامج الحكومة الحالية . وقدرت نسبة النمو في أوروبا للفصل الثاني من هذه السنة ب 1 .1% وفي أمريكا ب 7 .1% في وقت تستمر خلاله التسهيلات النقدية الأمريكية بقيمة 85 مليار دولار شهرياً . النقطة السوداء الأساسية ما زالت البطالة، حيث تصل نسبتها إلى 27% في اليونان، 26% في إسبانيا و12% في منطقة اليورو . أخيراً هنالك أسباب للتفاؤل منها استمرار الضخ النقدي في الدول الغربية وبقاء النمو قوياً في الدول الناشئة وإن انخفض نسبياً . أما الاكتشافات الجديدة من نفط وغاز في الولايات المتحدة إن صحت، فستسهم أكثر في تغيير خريطة النمو الدولي .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"