«فن التهرّب»

02:19 صباحا
قراءة دقيقتين
يحيى زكي

يختتم المؤرخ إريك هوبزباوم كتابه الشهير «عصر التطرف»، 1994، بنبرة تحمل الكثير من التشاؤم في ما يتعلق بالقرن الحادي والعشرين، ذلك القرن الذي يتسم بسياسة، بناء ًعلى شواهد عدة، لا تمتلك أي أفكار كبرى تقدمها للبشر، فضلاً عن أنها ستتحول من ممارسة عُرفت دائماً بفن الوصول إلى الممكن إلى «فن التهرّب» من المطالب.
لا يمكن لأي متابع للأحداث التي تدور في جنبات السياسة العالمية الآن، إلا أن يعود إلى مصطلح «فن التهرّب» لينطلق منه لكي يفهم أبعاد تلك السياسة، حيث يبدو أن الجميع يخاف من تقديم تنازلات للوصول إلى حل ممكن، تجاه مسألة ما يحسم إلى حد كبير وقائعها المأزومة على أرض الواقع.
«فن التهرّب» ظاهرة تلخص إلى حد كبير ما يحدث في العراق الآن، الآلاف يتظاهرون من أجل الحياة الكريمة التي لا يمكن أن تستقيم في ظل الفساد والطائفية والتدخلات الأجنبية، وهو وضع نتج عن إرث عقود من التجريب والتخريب في الساحة العراقية، حتى لم يعد أمام القائمين على الأوضاع في ذلك البلد العربي المنكوب إلا تأجيل الحلول، وسد الأذن عن المطالب، و«إيهام» المواطنين بتقديم تنازلات زائفة تتمثل في استقالة هذا المسؤول أو محاكمة ذلك الموظف، ولا يوجد ضمن هؤلاء الساسة من يقدر على صياغة المختلف والمغاير، أي يمتلك فكرة كبرى بخصوص الراهن، والخروج من المشاكل، ولن نعثر كذلك على من يستطيع إقناع المتظاهرين بحلول مقبولة، أي لا مكان في هذه الصورة البائسة على وجه الدقة للسياسة.
ليس العراق وحده هو من يعاني تلك الظاهرة، ولكنها واضحة في أكثر من قطر عربي، والأسباب كالمعتاد معروفة، يدركها الجميع، ولكن ماذا عن الحلول؟.
أتصور أن الحلول معروفة أيضاً، وفي وضع العراق سيكون من قبيل الكلام المستهلك، الحديث بلغة الينبغيات: لابد أن يقدم كل طرف تضحية ما، وأن نحاول الخروج من دائرة المصالح الفئوية والعشائرية، وأن تعاد صياغة خطاب سياسي يوحد لا يفرق، ليلتف الجميع حول فكرة الوطن في وجه عوامل الفرقة الداخلية والتدخلات الخارجية. ولكن الأزمة الحقيقية تتمثل في غياب من يمتلك الجرأة على «محاولة» تطبيق تلك الحلول، أو حتى الحلم بكسر التابوهات الثلاثة: الفساد والطائفية والتبعية.
في الحالة العراقية الهرب ليس من مطالب واقعية ملحة، ولكنه هرب أيضاً من «مجرد الحلم» بوطن مدني حديث، ولذلك عواقبه الوخيمة، حيث ستبقى الأزمة معلقة دوماً، ربما تهدأ حدة التظاهر، ويسود الهدوء الخادع ولكن الإحساس بالظلم والفشل وعدم تحقق المطالب يتضخم في اللاوعي لينفجر لاحقاً بطريقة مأساوية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"