«نوبل» تكرس التحول الديمقراطي

01:37 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. غسان العزي

كثيرون في العالم، من علماء وأدباء وسياسيين وغيرهم، يحلمون بالحصول على جائزة نوبل، ومنهم من يقضي العمر سعياً وراء هذا الحلم فينجح في تحقيقه أو يموت من دونه. في لائحة الذين حصلوا على الجائزة هناك من استحقها بجدارة، لكن هناك أيضاً من حصل عليها من دون حق، مثل رؤساء الوزراء «الإسرائيليين» الثلاثة: مناحيم بيغن، الذي غزا لبنان في العام 1982، حيث ارتكبت مجزرة صبرا وشاتيلا، وشيمون بيريز صاحب مجزرة قانا في العام 1996، وإسحق رابين الذي أمر بسحق عظام أطفال الانتفاضة الفلسطينية. هذا من دون أن ننسى الرئيس أوباما الذي وصلته الجائزة في العام 2009 بشكل مسبق أي لمكافأته على ما سوف يقوم به من إنجازات لمصلحة السلام العالمي، وهو إلى اليوم لم يقم بما يجعله جديراً بمثل هذه الجائزة.
رباعي الوساطة في الحوار التونسي حصل على جائزة نوبل للسلام، على الأرجح من دون أن يسعى إليها أو يفكر فيها. جل ما كان يبتغيه هو إنقاذ بلاده من الوقوع في أتون الفوضى على الطريقة الليبية أو السورية أو اليمنية، فنجح واستحق تهنئة العالم له ولتونس التي تكرست بذلك نموذجاً ناجحاً للانتقال الديمقراطي السلمي بعد أن كادت تنضم إلى ضحايا الإرهاب والثورة المضادة كما حصل لإخوة لها في «الربيع العربي».
تشكل هذا الرباعي في العام 2013 من «الاتحاد العام التونسي للشغل» (أكبر منظمة عمالية في البلاد) و«الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية» (اتحاد رجال الأعمال وأرباب العمل)، وهاتان المنظمتان ولدتا في العامين 1946 و1947 ومارستا دوراً مهماً في الحياة النقابية والاقتصادية والسياسية قبل الاستقلال وبعده. وقد انضمت إليهما «الهيئة الوطنية للمحامين التونسيين» و«الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان».
وكان تأسيس هذا الرباعي على خلفية اضطرابات اجتماعية وخلافات سياسية حادة ناهيك عن الاغتيالات السياسية (بلعيد ثم البراهمي) والتهديدات الإرهابية لاسيما المواجهات بين الجيش والإسلاميين في جبال الشعانبي. وبعد عملية وساطة طويلة وشاقة تميزت بالحيوية والمثابرة والتصميم نجح الرباعي في تفادي شلل المؤسسات الوطنية قبل جمع الأطراف، وهم واحد وعشرون حزباً، إلى الحوار فالاتفاق على «إقامة نظام حكم دستوري يضمن الحقوق الأساسية لجميع السكان من دون تمييز يتعلق بالجنس والأفكار السياسية والمعتقد الديني» على ما جاء في المؤتمر الصحفي الذي أعلنت خلاله لجنة نوبل السويدية منح الجائزة للرباعي التونسي.
لقد نجح هذا الأخير في إقصاء الترويكا الحاكمة (رؤساء الجمهورية والحكومة والبرلمان) وفي إجبار الحكومة على تقديم استقالتها وتسليم السلطة لحكومة كفاءات. اندلع الصراع وقتها بين «الشرعية الانتخابية» (الترويكا منتخبة بالاقتراع الشعبي غداة ثورة الياسمين عام 2011)، و«الشرعية التوافقية» وأنهاه الرباعي لمصلحة هذه الأخيرة والتي اعتبرها البعض فخاً انقلابياً ألغى الديمقراطية التي أوصلت أحزاباً إلى السلطة بأصوات الناخبين. هذا الرأي يقول بأن حزب نداء تونس بُعث على عجل بالتنسيق بين اليساريين والدساترة «أزلام النظام البائد» فتمكن زعيمه الباجي قائد السبسي من تحقيق رغبته بدخول قصر قرطاج
ربما يكون هذا الرأي صحيحاً إلى حد ما، ولكن الصحيح أيضاً أن الرجل الذي يقترب من التسعين عاماً، والذي كان من رجال عهدي بورقيبة ثم ابن علي، انتخبته الفئة العمرية الشابة من التونسيين وبنسبة كبيرة على حساب مرشحين شباب حملوا خطابات ثورية وحداثية.
لقد كانت السنوات بين 2011 و2014 كفيلة بتغيير مزاج الرأي العام التونسي الذي شاهد، وما يزال، ما يحدث في الجارة الليبية القريبة والجيران الأبعد من دول «الربيع العربي» لاسيما وأن البيئة التونسية ليست منيعة إلى حد كاف أمام الطروحات المتطرفة بدليل الآلاف من التونسيين الذين «هاجروا» إلى «الجهاد» في صفوف تنظيم «داعش» الإرهابي.
لقد أسدت حركة النهضة خدمة كبيرة للتحول الديمقراطي عندما وافقت كتلتها النيابية، وهي الأكبر في البرلمان، خلال مداولات المجلس التأسيسي على التخلي عن قانون تحصين الثورة وإقصاء التجمعيين عن الترشح للانتخابات وعن السن القصوى التي تمنع السبسي من الترشح للانتخابات. وقد كوفئت الحركة في الداخل بحلولها في المركز الثاني ولو أنها لم تصل إلى قصر قرطاج أو رئاسة الحكومة، وفي الخارج بحصول التحول الديمقراطي التونسي على جائزة نوبل، والحركة جزء لا يتجزأ من هذا التحول.
واليوم ولاسيما بعد العمليتين الإرهابيتين في متحف باردو وشاطئ سوسة ما يزال شبح الإرهاب يخيم على تونس. وقد بدأت الخلافات بين أجنحة المنظومة الحاكمة تظهر إلى العلن كما أن العلاقة بين طرفي الرباعي أي اتحاد الشغل واتحاد الصناعة والتجارة وصلت إلى حد تبادل الاتهامات العلنية، ذلك أن العدو الإسلامي الذي اتحدا ضده لم يعد في الحكم، كذلك فإن المشاكل الاجتماعية والاقتصادية ما تزال تتراكم من دون حلول في الأفق المنظور.
وهكذا فالمسار الديمقراطي ما يزال هشاً يسير على طريق محفوف بالألغام والعقبات. وجائزة نوبل هي في الوقت نفسه تهنئة على ما تحقق من إنجاز لكنها أيضاً تذكير بالأعباء الجسام التي ما تزال على عاتق التونسيين من أجل ترسيخ التحول الديمقراطي وتحصينه وحمايته.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"