أدوار المواريث في صراعات اليوم

03:45 صباحا
قراءة 3 دقائق
عبد الإله بلقزيز

تفيدنا معطيات تاريخ العلاقة بين الشعوب والمجتمعات والثقافات أن أشد أنماط التأزم فيها (العلاقة)، والأبعث على التجافي والتخاوف إنما هي تلك التي يكون الباعث عليها الاختلاف في الاعتقاد الديني.
ومفاعيل الاختلاف هذا تكون أنفذ وأقوى كلما احتل الديني مكانة معتبرة في النظام الاجتماعي والسياسي، وتنزل من العلاقات الجمعية منزلة أساساً، بوصفه واحداً من أظهر مصادر المشروعية السياسية.
ولا يغير من هذه الحقيقة أن بعض الأديان تشترك في النهل من منبع عقدي واحد، وتعلن انتسابها إليه (كما في حالة الأديان التوحيدية الثلاثة في علاقتها بمصدرها الإبراهيمي)؛ إذ هذا الاشتراك لم يمنع أياً منها من تقديم نفسه بوصفه التعبير الأمين عن صحيح الدين وتخطئة غيره، كما لم يمنع أتباعها من الدخول في موجات من النزاعات متلاحقة على الوجود والنفوذ، حتى يجوز أن يقال على ما يفيد المثل الدارج إن الصراع لا يكون إلا بين الإخوة.
كان مألوفاً في الأزمنة قبل الحديثة، أن تُعرّف الجماعة الاجتماعية المتماهية مع دين ما، نفسها تعريفاً دينياً أو ملِّياً حتى وإن كانت هي جماعة سياسية؛ بل كثيراً ما عرفت دولتها بما هي ذلك الجهاز الذي تكل إليه أمر نشر الدين في الآفاق، فتسخره لهذا الغرض وتكسب من ربطه بتلك الوظيفة شرعية مضاعفة في نفوس الرعايا. هكذا كان معنى «الحرب المقدسة» في المسيحية الوسطى، وهكذا فهم معنى الجهاد عند كثير من الفقهاء ورجال الدولة في الإسلام.
وما إنْ يبلغ الصدام بين جماعتين ملِّيتين عتبة المواجهات العسكرية فتسفر هذه عن منتصر ومهزوم، وتتوسع رقعة ذاك وتضيق رقعة هذا، حتى ينظر إلى الأمر وكأنه غلبة لدين على آخر، وتتهيأ النفوس والعزائم إما لتثبيت انتصارات من كسب الحرب، أو للإعداد لجولة أخرى يثأر فيها المهزوم لنفسه ودينه. ومع الزمن تتكرس في الوعي الجمعي للمختلفين في الدين، المتنازعين على النفوذ، صور وتمثلات للخصم/الآخر؛ لعقائده وقيمه وأعرافه وتقاليده.
تلك هي حال العلاقات التي انتسجت، في العصور قبل الحديثة بين مجتمعات الإسلام ومجتمعات المسيحية منذ بداية الدعوة الإسلامية، في القرن السابع للميلاد، إلى سقوط آخر ممالك الأندلس وبداية مأساة العرب الموريكسيين في القرن السادس عشر، وهي فترة شهدت على اندلاع أنواع شتى من المواجهات العسكرية المفتوحة بين العالمين، وتكونت فيها لدى كل جماعة اعتقادية من الجماعتين، صور نمطية عن الأخرى ونظامها الاعتقادي والثقافي والاجتماعي. وهي صور لم تُبددها المجادلات اللاهوتية التي جرت بين علماء الدين من الضفتين، حتى لا نقول إنها رسختها أكثر. واليوم، حين نلحظ مقدار الفجوة القائمة بين العرب والمسلمين والغرب، ونظرة الريبة والتوجس التي يحتفظ بها كل فريق في مواجهة الآخر، والصور النمطية المتبادلة عنهما لدى كليهما، فنحن لن نستطيع أن نُدرك على التحقيق بعض أسبابها التاريخية العميقة إن لم نُلق بنظرنا على صفحات ذلك الماضي المديد من النزاعات والسجالات التي دارت بين الجيوش واللاهوتيين والفقهاء من الجانبين.
هذه الملاحظة ضرورية لتبديد اعتقاد لدى كثيرين بأن ما يجري من وقائع سوء العلاقة بين العرب (والمسلمين) والغرب، (هو) نتاج لحوادث معاصرة تقبل المعالجة إن أحسن تشخيصها وأدركت الأسباب التي أفضت إلى استفحال أمر نتائجها.
نعم.. نحن لا ننفي أن أزمة العلاقة أزمة سياسية بالتعريف، وأنها بنت اليوم، أوحصيلة عقود من السياسات، كما لا نبغي القول إن نظرة الغرب إلى العرب والمسلمين، أو نظرة هؤلاء إلى الغرب نظرة دينية لم يطرأ عليها تغيير منذ ألف عام ويزيد؛ بل نسعى إلى بيان الأثر الخفي الذي يكون للمواريث دائماً في تكوين الرؤى المتبادلة لدى الجماعات الاجتماعية إلى بعضها بعضاً، ووظائف الموروث من الصور النمطية في تيسير تجهيز المخيال الجمعي بحاجته من الطاقة للاشتغال في لحظات التأزم.
هكذا يغدو من اليسير جداً في لحظات الأزمة أو الصدام بين مجتمعين تبادلا النزاع طويلاً تركيب بطارية المواريث ومخلفاتها العميقة من صور منمّطة في جهاز اشتغال السياسة، على النحو الذي يقع فيه توظيفها من أجل استثارة مشاعر الخوف والكراهية والعداء (الراقدة في أعماق الوجدان والذاكرة والمعاد إنتاجها باستمرار)، قصد تأدية وظائفها في التجييش والتحريض واستمالة الرأي العام لموالاة سياسات بعينها، ينظر إليها حينها بوصفها سياسات دفاعية ومشروعة! قد يكون التاريخ في حد ذاته محايداً، لكن المصالح تستطيع إنطاقه ليقول ما تريده.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"