أمريكا بين القطيعة والاستمرارية

04:31 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي

انتقلت الولايات المتحدة خلال السنتين الأخيرتين من خانة الممارسة السياسية الهادئة على مستوى أعلى هرم السلطة في واشنطن، إلى خانة الإثارة السياسية في ظل أجواء مشحونة وعاصفة تهيمن عليها تصريحات وتغريدات الرئيس دونالد ترامب المثيرة للجدل، وتتصدرها أنباء مغامراته وأخبار تطورات التحقيقات القضائية المتعلقة بالصلات المفترضة لأعضاء حملته الانتخابية بروسيا. ومن الواضح أن كل هذا الضجيج السياسي والإعلامي الكثيف الذي يثار حول شخصية سيد البيت الأبيض الجديد وبعض مقربيه، قد أسهم على نحو كبير في تراجع هيبة مؤسسة الرئاسة لأعظم دولة في العالم على المستويين المحلي والدولي.
ويشير هذا المشهد الأمريكي العاصف، إلى وجود عنصرين أساسيين يتصلان بأبجديات الممارسة السياسية في واشنطن، يتعلق الأول بوجود استقرار واستمرارية في بنية مؤسسات الدولة العميقة ذات الصلة الوثيقة بالنخب واللوبيات السياسية والاقتصادية المؤثرة، ويرتبط الثاني بحدوث نوع من القطيعة الإيديولوجية أدت إلى بروز بون شاسع وغير متوازن على مستوى مقام وبنية ممارسة الحكم في البيت الأبيض بين الإدارة الديمقراطية السابقة وبين التركيبة الجمهورية الحالية.
ونعتقد أن العنصرين معاً كان لهما تأثير مباشر على الأوضاع الداخلية والخارجية، حيث قاد العنصر الأول المؤسسات الأمريكية في واشنطن إلى التحقيق في إمكانية وجود صلات ما بين فريق حملة ترامب الانتخابية وروسيا، التي سبق أن اتهمتها قيادة الحزب الديمقراطي بالتدخل من أجل التأثير في النتائج النهائية للانتخابات الرئاسية الأمريكية، كما أن هذا العنصر القائم في جانب منه على استراتيجية المواجهة مع روسيا، هو الذي فرض على ترامب التراجع عن عهوده الانتخابية المتعلقة بتطبيع العلاقات السياسية مع موسكو والقبول من ثمة بفرض عقوبات جديدة عليها، وقد أسهم كل ذلك في وصول العلاقات بين واشنطن وموسكو إلى مستوى غير مسبوق من الخطورة لم تصل إليه حتى في ذروة الحرب الباردة.
أما العنصر الذي يتعلق بفكرة القطيعة فإنه يبدو شديد الصلة بشخصية ترامب وبإيديولوجيته الشعبوية القائمة على شعار «أمريكا أولا»، وكانت نتائجه العملية بالغة السوء على نسيج العلاقات الدولية وعلى مصداقية الولايات المتحدة الأمريكية على المستوى الدولي، نتيجة لإقدام إدارة البيت الأبيض الأمريكي على الخروج من اتفاقية باريس حول المناخ ومن اتفاقية الشراكة عبر الهادي ومن الاتفاقيات التجارية التي كانت تربط واشنطن بمجموعة من الدول الحليفة، فضلاً عن تهديدها للصين ولشركائها الأوروبيين بحرب تجارية شعواء، من خلال سعيها إلى فرض رسوم جمركية على الدول التي تملك فائضاً تجارياً في مبادلاتها مع واشنطن. كما أقدمت إدارة ترامب في السياق نفسه، على التخلي عن كل القرارات الدولية المتعلقة بالصراع العربي - «الإسرائيلي»، من خلال اعترافها بالقدس عاصمة ل«إسرائيل» وإعلانها عن نقل السفارة الأمريكية من «تل أبيب» إلى القدس، التي أكدت المجموعة الدولية أن وضعها يجب أن يكون مرتبطاً بمفاوضات التسوية النهائية بين أطراف الصراع في المنطقة. ومن اللافت في هذه المسألة أن هذه الإدارة دأبت حتى الآن على تقديم تنازلات إضافية للطرف «الإسرائيلي» كلما اتخذت التحقيقات بشأن علاقة ترامب المفترضة مع روسيا منحىً تصاعدياً.
ويمكن القول في هذا السياق، أن القطيعة الكبرى على مستوى الممارسة السياسية في الولايات المتحدة ترتبط بالدرجة الأولى بالمستوى المتدني للسلوك السياسي والدبلوماسي للإدارة الأمريكية، الذي تجلى في عدة مناسبات لا سيما لدى استقبال ترامب للمستشارة الألمانية في واشنطن لأول مرة خلال السنة الماضية، وفي سياق حديثه عن علاقات بلاده مع الدول العربية ولجوئه إلى الابتزاز وتوظيفه لعبارات السمسرة السياسية عند مطالبته للعرب بدفع ثمن مغامرات بلاده السابقة في الشرق الأوسط، ودعوتهم إلى دفع المزيد مقابل انخراط واشنطن في صراعات المنطقة.
وترى الدول الكبرى أن الإدارة الأمريكية تضرب بمصداقية العلاقات الدولية عرض الحائط، وتعطي للكثير من القوى الإقليمية وفي مقدمها «إسرائيل» وإيران إشارات خاطئة من أجل الانخراط في مزيد من المغامرات السياسية التي من شأنها أن تسيء إلى مصداقية المؤسسات الدولية وتهدد في اللحظة نفسها الأمن والاستقرار في مناطق عدة من العالم. وبالتالي فقد حرصت كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا إضافة إلى الصين وروسيا، على دعوة واشنطن إلى عدم اتخاذ قرارات انفرادية من شأنها التأثير سلباً على القواعد والأسس التي تحكم العلاقات الدولية.
ونستطيع أن نخلص في الأخير إلى أن مسلسل سياسات ترامب يمكن أن يقود على المدى المنظور إلى تأسيس نظام عالمي قائم على المغامرة السياسية والنكث بالمواثيق الدولية، وعلى تعميم مفاهيم الفوضى الخلاقة على مستوى العلاقات ما بين الدول وداخل الهيئات والمنظمات الدولية؛ ومن ثمة فإنه وبصرف النظر عن مآلات وتأثيرات سياسة ترامب داخلياً وخارجياً، وبغض النظر أيضاً عن مصير التحقيقات التي تستهدفه، فإن الإدارة الأمريكية نجحت إلى حد بعيد في زرع بذور انهيار العلاقات الدولية على نحو خطير وغير مسبوق، لم يشهد العالم مثيلاً له منذ اندلاع الحرب الكونية الثانية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"