ارتهان الإرادات العربية للخارج

05:33 صباحا
قراءة 3 دقائق

أن يحكم القضاء على بريء بالسجن، ثم يكتشف خطأه، فهذا يحدث كثيراً، لكن بقاء أربعة ضباط في سجون لبنان طيلة ثلاث سنوات ونصف السنة من دون توجيه أية تهمة إليهم ومن دون محاكمة علنية يختلف عن ذلك، إذ لم يكن نتيجة خطأ إنساني وليس له علاقة بساحة القضاء والقانون . إنه جزء في قائمة طويلة من ارتهان هذه الأمة وسقوطها المذهل . دعنا نمعن النظر في الأمر .

في الخمسينات والستينات من القرن الماضي كانت إرادة الأمة كلها في سبيلها للانعتاق من عقالها، فكانت مدركة لمعنى حريتها وكرامتها، حيوية في نضالاتها، واضحة في التدفق عبر العقبات التي توضع في طريقها، وكانت لها قيادة معنوية هائلة، لكن عندما وقف أحدهم في نهاية السبعينات ليعلن أن تسعاً وتسعين من أوراق اللعبة السياسية في أرض العرب هي في اليد الأمريكية، فإنه قد وضع اللبنة الأولى في ارتهان الإرادة السياسية العربية في يد الآخر وفي خارج حدود هذا الوطن . ومذ ذلك اليوم لم تستطع الأمة العربية استعادة الإرادة السياسية التي ضاعت .

في التسعينات من القرن الماضي قررت المقاومة الفلسطينية وضع بنادقها في المخازن والاستغناء عن ساحات هيئة الأمم المتحدة الممثلة معنوياً للضمير البشري ووضع قضيتها في يد الولايات المتحدة الأمريكية . فكانت تلك الخطوة هي اللبنة الأولى في ارتهان المقاومة النضالية العربية في يد الآخر وفي خارج حدود فلسطين ووطنها العربي . ومنذ ذلك اليوم لم تستطع الأمة استعادة زخم وفهم إرادة المقاومة، وأصبح موضوع المقاومة أمراً مختلفاً عليه . ولولا الإرادة الصلبة للقلة الشجاعة البطلة في الجنوب اللبناني وفي غزة وفي العراق، والتي ما زالت تحاول إقناع الأمة باستعادة تلك الإرادة، لأصبحت المقاومة العربية كلمة في القاموس الأمريكي المزور للتاريخ ولمعاني الحياة الكريمة .

منذ بضع سنوات انبرت أصوات في لبنان لتدّعي أن القضاء في لبنان والوطن العربي لا يمكن الاعتماد عليه . وتبع ذلك وقوف قوى سياسية عربية رسمية وغير رسمية مع ذلك الطرح، فكان أن أصبح مجلس الأمن هو الجهة المخولة نظر كل ما ينتمي للقضاء في الساحة العربية .

ومن لبنان إلى دارفور إلى العراق إلى الصومال رأينا ارتهان الإرادة القضائية والقانونية العربية في يد الآخر وخارج حدود الوطن، وكان أن شاهدنا منذ بضعة أيام تلك الفضيحة المدوية: القضاء الأجنبي يقف مع العدل ضد القضاء الوطني الذي ارتهنه السياسيون للخارج بمجرد أن أفسدوه ونخروه بتدخلاتهم وأموالهم .

وهكذا، مسبحة من الارتهانات للإرادات العربية للخارج، بدأت بالسياسة ومرت بالمقاومة وانتهت بالقضاء، ومنذ زمن طويل ارتهنت الإرادة الأمنية والاقتصادية للخارج، ومنذ فترة قصيرة بدأت خطوات الارتهان التربوي، بتعديل كل مناهج التعليم العربية، والارتهان الثقافي، بإضعاف اللغة العربية وتسطيح الإعلام العربي وابتذاله .

ما الذي بقي في الحياة العربية لم يرتهن لقرارات أو إرادات الخارج؟ ما الذي بقي في أيدينا؟ أنضيف إلى ما سبق المال العربي وفوائض الثروة البترولية في صناديق بنوك ومؤسسات وحكومات الخارج؟

أنضيف قلة الحيلة بالنسبة لتسعيرات البترول وإنتاجه وتسويقه؟ أنضيف الانكشاف الغذائي والمائي والعلمي والتكنولوجي لهذه الأمة؟

الكائن الذي يفقد إرادته يفقد مبرر وجوده، فلنحذر .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"