الأوباش وديمقراطية الرجل الأبيض

04:55 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي

نحاول من خلال اقتراحنا لهدا العنوان، إبراز الملاحظات التي يضعها قسم من المفكرين المعاصرين بشأن السمات والمنطلقات العنصرية لفكرة الديمقراطية التي نشأت في سياق الحضارة الغربية منذ تأسيس الدولة - المدينة عند اليونان. ونقوم بالتركيز في المقام الأول على كتاب الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفراي الصادر سنة 2017 والموسوم: «توكفيل والأوباش [الأوباش في النص الفرنسي]، الهنود الحمر، الزنوج، العمال، العرب وبقية الخارجين عن القانون». ورغم أن الفيلسوف ينطلق في أطروحاته من نزعة يسارية تحررية، كما يسميها في معظم مؤلفاته، ومن انتقاد اليسار الفرنسي الذي انعطف نحو الليبرالية مع الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران، إلا أنه يقدّم في فصول كتابه تحليلاً متماسكاً حول النزعة العنصرية لتوكفيل، انطلاقاً من إسهاماته الفكرية المتعلقة بديمقراطية الرجل الأبيض في أمريكا وأوروبا، وذلك اعتماداً على نصوص واضحة لا لبس فيها، ويصل من ثمة إلى اتهام قراء توكفيل من الفرنسيين والغربيين بالانتقائية في التعامل مع نصوصه الفكرية.
ونستطيع أن نلاحظ هذه البذرة العنصرية، انطلاقاً من المصادر الأولى المؤسِّسة للفكر السياسي الغربي عند اليونان، وتحديداً لدى أرسطو الذي حرص على تحذير تلميذه الإسكندر المقدوني من مغبة التعامل مع البشر على قدم المساواة، قائلاً له: «عامل الشرقيين من منطلق كونك سيِّداً، وعامل اليونانيين على أنك قائد». وظلت هذه التصورات الإقصائية للآخر المختلف ثقافياً وعرقياً ودينياً، تهيمن على مضامين الممارسة السياسية في الغرب حتى مطلع القرن العشرين، حيث اُعتبرت الحملات الاستعمارية الأوروبية فعلاً أخلاقياً رفيعاً، يهدف إلى إدخال الشعوب «المتخلفة» و«البدائية» إلى دائرة الحضارة الغربية، وكانت الأغلبية الساحقة للشعب الأمريكي تنظر في السياق نفسه إلى الرق على أنه التزام عادل بقوانين الطبيعة التي جعلت الزنوج والهنود الحمر، مخلوقات بشرية من الدرجة الثانية.
وعندما نقرأ مجمل أعمال ميشال أونفراي، فإننا نجده يعمل في كتاباته وفي محاضراته، على فضح ممارسات الدول الغربية ويحمِّل سياساتها الخارجية مسؤولية قتل الأبرياء في كل دول العالم، وبخاصة في الدول العربية والإسلامية، كما يحمِّلها تبعات انتشار العنف والإرهاب والهجرة السرية والجريمة المنظمة. وقد بدا هذا التوجّه التحرري المناهض للعنصرية في فلسفته بشكل صريح وواضح من خلال مؤلفه المشار إليه أعلاه: «توكفيل والأوباش، الهنود، الزنوج، العمال، العرب وبقية الخارجين عن القانون»، والذي سعى انطلاقاً من فصوله وفقراته إلى أن يُبرز كيف استطاعت إسهامات ونصوص مفكرين كبار مثل توكفيل وغيره، أن تقدّم حججاً نظرية واهية لرجالات السياسة في الغرب من أجل تبرير الممارسات العنصرية والاستعمارية ضد الشعوب الأخرى، وقدّم أونفراي بشأن هذا الموضوع أدلة تثبت أن توكفيل ليس رمزاً للديمقراطية والليبرالية في عالم متوحش، لا يؤمن أصلاً بقيم الديمقراطية والحرية.
ومن الواضح بالنسبة لمؤلف هذا الكتاب أن توكفيل عمل على تبرير إبادة الهنود الحمر في أمريكا ومجتمع الفصل العنصري القائم على التمييز بين البيض والسود، وكل أشكال العنف الاستعماري في الجزائر، كما قام أيضاً بتبرير إطلاق الرصاص ضد العمال الذين كانوا يطالبون بالعمل والخبز لأسرهم. وبالتالي فإنه يجب ألا نندهش عندما يتم توظيف كتاباته للتغطية على الانقلاب الإيديولوجي الذي حدث في فرنسا في الثمانينات من القرن الماضي، ومن أجل التخفي وراء مبدأ «الحق في التدخل»، للتغطية على حروب الاستعمار الجديد التي جرى تدشينها بداية من سنة 1990.
أما بالنسبة لمطالبة توكفيل بتحرير العبيد، فإن أونفراي يقول إن الأمر لا يعدو أن يكون ذراً للرماد في العيون، لأن العبد يكون أكثر كلفة بالنسبة لسيده من حيث مصاريف الأكل والإقامة والرعاية الصحية والتكفل بأسرته والاحتفاظ به في مرحلة العجز والشيخوخة، مقارنة بتكلفة عامل بسيط يحصل في الأغلب على أجر زهيد. ومن أجل التأكيد على عنصرية توكفيل يستشهد أونفراي بنص له يقول فيه: من بين هؤلاء الرجال المختلفين كثيراً، أول من يجلب الأنظار، من حيث الإشعاع والقوة والسعادة، هو الرجل الأبيض، الأوروبي، الرجل بامتياز؛ ويأتي بعده الزنجي والهندي.
وفي الفصل الذي يحمل عنوان: «عن الحق في تدمير بلاد العرب»، يتحدّث أونفراي عن موقف توكفيل من استعمار الجزائر، ويقتبس نصاً له يقول فيه: «أعتقد أن قانون الحرب يجيز لنا تدمير هذا البلد». ويؤكد أونفراي في السياق نفسه أن توكفيل، هو دون جدال، فيلسوف النزعة الاستعمارية في فرنسا، إذ لا يكاد يوجد مفكر في فرنسا وخارجها، قام بالتنظير إلى هذا الحد لأساليب القهر والإذلال، وبالحديث عن طريقة إزاحة شعب عن أرضه، وعن التقنيات العسكرية الضرورية لتحقيق الهيمنة، وعن الدعوة إلى تفويض الحكم المدني للسلطات العسكرية، وعن العمل على تقديم إشهار للمشروع الاستعماري من خلال إبرازه على أنه يسهم في الإثراء الشخصي للأفراد، وذلك علاوة على تطرّقه إلى كل التفاصيل الدقيقة الأخرى التي من شأنها الإسهام في إنجاح المشروع الاستعماري.
إن الحديث عن هذه السمات العنصرية التي صاحبت الكثير من التنظيرات والتصورات الفكرية والفلسفية المتعلقة بالديمقراطية، لا يهدف البتة إلى تبرير أو شرعنة أشكال السلطة الأخرى القائمة على القهر والاستبداد والاستئثار بالحكم، وذلك من منطلق قناعتنا أن انتقاد بعض أوجه الخلل المرتبطة بالمشروع الديمقراطي، يهدف في المقام الأول إلى الدفاع عن هذا المشروع الكوني من خلال الدعوة إلى تجاوز هناته وعثراته، الناجمة في مجملها عن صراع المرجعيات الثقافية والحضارية للمجتمعات البشرية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"