الحياة في شرنقة الذات

05:54 صباحا
قراءة دقيقتين
يحيى زكي

بعد أكثر من ثلاثمئة صفحة من تحليل الوضع الثقافي والسياسي الراهن في العالم، يصيب أمين معلوف قارئ كتابه الأخير «غرق الحضارات» بإحباط عندما يقول: «لقد بدأت الظلمات تخيم على الكون انطلاقاً من أرضي الأم»، فالعالم العربي الذي كان يوماً موطناً لهويات عدة تتعايش بجوار بعضها البعض في وئام لترسم لوحة حضارية مدهشة، أصبح هو المنطقة، الوحيدة في العالم الآن، التي تعاني تضخم هوية ضيقة رافضة للآخرين أو على الأقل تتعامل معهم بتحسس وضجر، الأمر الذي يجعل مستقبل التعايش غائماً، ولا أحد بإمكانه التنبؤ بالمقبل أو توقع ما يحمله الغد.
ولكن ليس العالم العربي، وحده، الذي يعاني تأزماً ثقافياً مكتوماً تجاه الهويات الأخرى، ففي إسبانيا وألمانيا وفرنسا هناك صعود متواصل لليمين المتشدد، فقصة الغرام الفكري، الكامنة في جزء خفي داخل البشر، بالأفكار الفاشية يبدو أنها لن تنتهي، بعكس توقع البعض بالانتصار النهائي للديمقراطية.
الملاحظ أيضاً أن إسبانيا التي كانت بدورها نموذجاً في التعايش بين مختلف الديانات والطوائف، تعاني بقوة الآن، فهناك أزمة كتالونيا، وصعود «حزب فوكس» اليميني المعادي للعرب والمسلمين، واللافت للانتباه أن زعيم الحزب سانتياغو أباسكال، وهو شديد التعصب، من أصول عربية.
ويبدو من تتبع الخطاب السياسي، اليومي، في أجزاء كثيرة من العالم أن الأفكار اليمينية تنمو يوماً بعد الآخر، برغم حدتها وفجاجتها أحياناً، الأمر الذي يحتاج إلى تأمل، خاصة ونحن نعيش في عصر انفتاح بين بني البشر غير مسبوق في التاريخ، يؤكد ذلك ارتفاع معدلات السفر والهجرة والتواصل عبر وسائل التكنولوجيا الحديثة، وأطروحات العولمة الرنانة حول القرية الكونية، وما يتعلق بالشركات العابرة للقارات ودورها في تقسيم العمل بأساليب جديدة تماماً، حيث لا يوجد منتج الآن إلا ويصنع في أكثر من مكان، وكلها مظاهر كان يفترض أن تؤدي إلى المزيد من التعارف والتفهم وصولاً إلى قبول الآخر، ولكن ما نقرأه ونشاهده لا يؤشر إلاّ على العكس.
نحن نعيش إذن في عصر مفارقته الأساسية تتمثل في الانفتاح الكوني الذي يرافقه تمترس الكثيرين داخل شرنقة الذات. نعيش في عصر مخادع، يدّعي التكافل والتعاضد الإنساني في مظاهره ودعواته البراقة، ولكنه في الحقيقة يفتقد إلى فكرة كبرى يلتف حولها البشر، بحيث تتوارى أمامها أي أفكار أخرى تتعلق بحدود الأنا الضيقة، نفتقد إلى عقل كوني اعتبره ديكارت يوماً أعدل الأشياء قسمة بين البشر، والذي يستطيع أن ينشر السلام بينهم، وفي ظل غياب ذلك العقل تقع بعض الحضارات في فتنة التعصب والإقصاء، وربما تأخذ معها العالم بأكمله إلى ما لا يبشر بخير.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"