السبسي.. إرثه يُلهم شعبه

03:04 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود الريماوي

نجح الباجي قائد السبسي، رحمه الله، في جمع التونسيين حوله في جنازته الوطنية المهيبة، كما نجح في جمعهم حوله خلال حياته المديدة، التي أمضى الشطر الأكبر منها في المعترك العام. السبسي الذي غادر دنيانا الخميس 25 يوليو/تموز، بدأ حياته مناضلاً في صفوف الحركة الوطنية ضد الانتداب الفرنسي لبلاد الياسمين، وبعد الاستقلال في أواسط خمسينات القرن الماضي، انضم مستشاراً للزعيم الراحل الحبيب بورقيبة؛ أول رئيس بعد الاستقلال، وباني تونس الحديثة.
من يتقصى سيرة حياة السبسي؛ وهي متاحة على الشبكة العنكبوتية، سوف يلحظ أمراً على جانب كبير من الأهمية؛ فسيرة هذا الرجل الذي رحل عن (93) عاماً محتفظاً بشبابه العقلي، تكاد تتطابق مع سيرة بلاده، ومحطاتها البارزة في النضال ضد الاستعمار ثم بناء الدولة ثم تجديد الحياة السياسية والعامة. فرغم قربه من بورقيبة وثقة الرجل به، فإن السبسي كان يحتفظ بشخصيته، ومن ذلك أنه طالب بإصلاح الحزب الدستوري الحاكم، مع آخرين من الأعضاء البارزين؛ فكانت النتيجة أن تم طرده من الحزب؛ رغم أنه أحد مؤسسيه!
وهو أحد بناة الدولة؛ إذ سبق أن عمل وزيراً للداخلية، ووزيراً للدفاع الوطني في النصف الأول من عقد الستينات. وقد انضم إلى معارضة إصلاحية؛ تبغي تطوير النظام من داخله، حين انضم في عام 1978 إلى حركة الديمقراطيين الاشتراكيين برئاسة أحمد المستيري؛ وهي حركة حزبية مرخصة كانت تعمل بصورة علنية في دائرة الضوء. ولم يلبث الحكم أن أدرك مجدداً أهمية الرجل وكفاءته؛ فأسندت إليه وزارة الخارجية في عام 1980.
وتتوالى مسيرة الرجل الذي كان يؤمن بأهمية الإصلاح مع الاستمرارية. ويتمتع بكفاءة منقطعة النظير؛ إذ جمع بين العمل الأمني والدبلوماسي والحزبي والنيابي. وحين هبت موجة ما يُسمى ب«الربيع العربي» في عام 2011؛ ورغم أن السبسي كان من رجال النظام السابق، فإنه كان خلال ذلك وقبله رجل دولة من طراز رفيع، ويتمتع بثقة شعبية واسعة؛ ولهذا تمت تسميته وزيراً أول (رئيساً للوزراء في حكومة مؤقتة)؛ بعد إطاحة زين العابدين بن علي. ولم يمض سوى 20 شهراً أو أقل من ذلك حتى أنشأ حزباً جديداً؛ وهو في السابعة والثمانين من عمره، باسم حركة «نداء تونس»، التي ما زالت قائمة. ثم فاز بثقة الشعب، في انتخابات الرئاسة في أواخر عام 2014، وهي أول انتخابات تجري بصورة ديمقراطية كاملة، فيما كان منافسه الرئيس السابق منصف المرزوقي قد تولى دفة الحكم؛ بناء على تصويت المجلس الوطني التأسيسي، فيما فاز السبسي بالاقتراع الشعبي العام. وبإجراء الانتخابات الرئيسية؛ فقد أرسى الرجل مبدأ تداول السلطة على جميع المستويات، بما في ذلك الموقع الأول؛ وذلك بالاحتكام إلى إرادة أبناء شعبه.
ومع وصوله إلى رئاسة الجمهورية، وهو يقترب من عامه التسعين، فقد ظل ينظر إليه من سائر الفرقاء في بلاده على أنه رجل المرحلة، وصمام الأمان، وعنوان التوافق وملتقى التيارات، وأنه أمين على حاضر وطنه ومستقبله، كما على تراث تونس الحديثة في تكريس الحياة المدنية والمساواة بين الرجال والنساء، وضمان الحريات العامة والفردية، والوفاء للتعددية الثقافية والاجتماعية على جميع المستويات، إضافة إلى التعددية السياسية والحزبية. والأهم من ذلك أنه حال بحكمته وحنكته دون تفجر المنازعات السياسية والاجتماعية، في مرحلة اتسمت بالسيولة الإعلامية والسياسية، وكادت تلامس حالة الفوضى.
غير أن المطامح السياسية المشروعة والمشخصنة، وتضارب التيارات وتلاطمها، قد أصابت الرجل كما أصابت الحياة العامة في بلده. فقد شهد الحكم خلال العامين الماضيين على الأقل حالة أقرب إلى الشلل على مستوى الانسجام بين مؤسسات الحكم. وخاصة بين رئاستي الجمهورية والحكومة. كما اعترى حركته «نداء تونس» قدر من التفكك، وهي ضريبة ثقيلة دفعها الرجل من رصيده الشخصي الحافل، غير أنه يمكن فهمها في ضوء المرحلة الانتقالية، التي يتناوب عليها الاضطراب والتماسك، وتختلط فيها المعايير السياسية والوطنية التي ما انفكت تلقي بظلالها على الحياة العامة، وعلى المؤسسات.
على أنه يبقى الرجل في محطته الأخيرة، أنه رحل وقد أبقى على قدر من التماسك للمؤسسات الدستورية، بما أمكن من انتقال سلس وآمن، وإن كان مؤقتاً لرئاسة البلاد، كما نجح في إبعاد المؤسسة العسكرية عن عالم السياسية، مع المحافظة على دورها الوطني، ونجح في مكافحة الإرهاب وذيوله مع دفع بعض التضحيات الغالية على هذا الطريق؛ (اغتيال بعض الشخصيات العامة).
ولا شك أن إرث الرجل ومناقبه، سوف تلهم التونسيين للسير ببلادهم على طريق الاستقرار والتفتح والازدهار.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"