أتدري ما هو أكثر شيء يمكن أن يخونك ويخدعك في هذه الدنيا؟ إنه المنصب دون منازع ! لأنه مثل قارب صغير تقوده، لكنك بنفس الوقت تطمح لامتلاك قارب أكبر فأكبر. وهكذا تواصل التقدم على طول المسار، ودائماً عينك على ذاك القارب الأكبر، وتستمر وتستمر....
وفي لحظة غير متوقعة، كأنه بساط أحمر يُسحب من تحت قدميك، يختفي القارب الذي أنت فيه وتختفي القوارب الأكبر التي كنت تطمح للوصول إليها، وتجد نفسك فجأة في قلب بحر واسع وحيداً بلا يد تمتد لإنقاذك؛ فتدرك الحقيقة المريرة بعد فوات الأوان.
هذا البحر الواسع هو حياتك بعد المنصب، فهل تركتَ أثراً طيباً قبله يكون لك رصيداً فيما بعد؟ أم تناسيتَ طريقة تعاملك مع موظفيك وتذكرتها قبل الرحيل؟
هذا هو حال بعض المسؤولين. يكون الواحد منهم على رأس عمله شديداً، قاسياً مع موظفيه، لا يعرف الغفران ولا التسامح، ولا يرى سوى الأخطاء والسلبيات، متجاهلاً أي جهد مبذول أو فكرة جديدة. ثم بعد أن يقولوا له: «مع السلامة» ويترك المنصب، يمر على موظفيه مودعاً بقوله: «سامحوني إن قصرت» «سامحوني إن غلطت».
هنا يبرز السؤال الكبير: لمَ الآن بالتحديد؟ ولماذا لم يحسب بعض أصحاب المناصب حساباً للأيام القادمة، فيعاملوا من حولهم برقي ومحبة، تاركين بصمة حاضرة في الذاكرة؟
النجاح الحقيقي لا يقاس بالمكانة الوظيفية، بل بالإرث الذي تتركه خلفك. إن كنت تسعى لإحداث تأثير إيجابي، فعليك أن تكون مثالاً يحتذى به، وقائداً يلهم فريقه ويدعمهم.
من هذا المنطلق أوجّه نصيحة من صميم خبرتي وتجربتي لكل مدير ومسؤول، وهي ألا تغتر بمنصبك المهني، لأنه زائل كما ينقضي النهار بزحف جيوش الليل.
لا تعمل من أجل المنصب بحد ذاته، بل لما يأتي بعده. اترك أثراً طيباً بين زملائك وموظفيك، وكن متسامحاً، عادلاً، وشفافاً في تعاملاتك. قدر جهود أفراد الفريق وشجعهم على طرح الأفكار وتطوير المهارات، واحرص على تعزيز روح الانتماء والإيجابية، وخصوصاً على إقامة علاقات طيبة مع الجميع.
من واقع تجربة مهنية حية، أدركت أن قيمة الإنسان لا تقاس بالمال أو المناصب، بل بما يتركه من أثر جميل في نفوس الآخرين. كلما زرعت بذور المحبة والتسامح، حصدت ثمار الاحترام والتقدير. وفي نهاية المطاف، بعد رحلة أساسها الإدارة الحكيمة، ستجد نفسك عائداً إلى مرفأ السعادة الحقيقية، الذي لا يمكن لأي منصب أن يوفره، لأنه يأتي فقط من خلال العلاقات الإنسانية القائمة على الاحترام، والنبل، والتواضع.
