تأمّلات في تربية العقل التنمويّ

00:10 صباحا
قراءة دقيقتين

قلت للقلم: لقد أكثرتَ الحديث عن غياب تربية العقل الناقد في العالم العربي، فهل لك في تغيير مذاق السمع بكلام غياب آخر؟ قال: طِبْ نفساً، فقد فرغتُ لتوّي من استعراض شريط أوّله في أقدم الحضارات التي سادت ثم بادت على ما هي اليوم المضارب العربية، وآخره حيث أنت. سأحدثك عن غياب تربية العقل التنموي، عن تربية لا تنمو ولا تثمر إلاّ إذا زُرعتْ بذورها في تربة الدماغ، وغدت ساريةً في شرايين أدائه.

جهود الأسرة والمدرسة تنصبّ على الشق التعليمي، فالهمّ الوحيد لديهما هو تحصيل المعلومات. معاذ الله أن يكون الغرض الغمز من القناتين، بمعنى أن الأسرة وأنظمة التعليم لا تقدّر التربية حق قدرها، لأن التنشئة التقليدية تحرص على تخريج أمخاخ كالأقراص الصلبة للتخزين. كان القدامى يفخرون بأن فلاناً حفظ الكتب الفلانية في النحو والمؤلفات العلانية في أمور أخرى. أمّا أن يكون عقلاً ناقداً مفكراً، وعبقريّاً مبدعاً، وخيالاً مجنّحاً، فتلك أمور لا ترقى إلى المخ الطامور الوسيع.

في يوتيوب محاضرات كثيرة لأساتذة الفلسفة، عن تاريخ المذاهب الفلسفية والعلوم، يتناولون فيها سرداً ونقداً ما يسمى «المعجزة اليونانية»، لكن لكونهم نقاداً للفكر والفلسفة والتاريخ يضعون كل تلك الميادين تحت المجهر، فحصاً واختباراً لعدم اقتناعهم بأن يكون اليونانيون هم الينابيع السحرية التي تفجرت منها عيون الفلسفة والرياضيات والفلك والموسيقى والفنون المسرحية والملحمية والأفكار السياسية والبرلمانية والألعاب الأولمبية وغيرها، وكل ذلك من رقعة جغرافية محدودة لا تتجاوز صقلية، بصرف النظر عن امتدادات حروبهم. كيف يُعقل ألاّ تكون لعلومهم ومعارفهم تجذّرات في حضارات أخرى تغذّوا عليها وبها نموا وعليها بنوا؟

لقد أخذ اليونانيون الرياضيات من حضارة وادي الرافدين، ومنها نظرية فيثاغورس، التي تسمى أيضاً المبرهنة، والحساب الستيني (60 دقيقة، 60 ثانية) والكثير في علم الفلك. كبار الفلاسفة اليونانيين درسوا طويلاً في مصر. كانت الموسيقى متطورة في العراق ومصر القديمين. كان قدماء اليونانيين متقدمين في تربية العقل التنموي. نقلوا العلوم والمعارف ونمّوها وطوروها، أمّا عندما انتقلت إلينا الفلسفة اليونانية، بفضل المترجمين السريان اصطدمت بالموانع والمحدوديات. بعد العباسيين نامت العلوم أيضاً.

لزوم ما يلزم: النتيجة الأسفيّة: كل بيانو في العالم هو حفيد السنطور الآرامي العراقي، وكل جيتار هو ابن عود زرياب. ألا يستحق العقل تربية تنموية؟

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/muek6krx

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"