السياسة وتصاعد الاستثمار في الخوف

02:40 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

يحيلنا علم النفس التحليلي إلى الأهمية الكبيرة التي يلعبها الخوف في حياة الأفراد والجماعات، فما يحرك البشر ليس الطموح وحده، والحاجة إلى النمو والازدهار والرفاه، بل أيضاً، وربما بشكل أكبر وأوسع نطاقاً، يشكّل الخوف مصدراً رئيسياً للسلوك الإنساني، كما أن الخوف من وجهة نظر التحليل النفسي عامل طبيعي لتحديد المخاطر، واتخاذ ما يلزم من احتياطات وإجراءات للحدّ منها، وتقليل مفاعيلها السلبية، وبالتالي فإن الخوف ليس عنصراً سلبياً بالمطلق، بل عنصر إيجابي في تحديد ما هو جيد وما هو سيء، أي أنه أحد مكونات المعرفة، بحسب بعض القراءات البنيوية، والتي تقول بأن أهمية إدراك الحقيقة تكمن في كونها تشكل طريقنا للتمييز بين السلوك الخاطئ والسلوك الصحيح.
ومن المعروف بأن مراكز الأبحاث تعتمد في أحد صيغها البحثية الأكثر شيوعاً، على تحليل المخاطر للاعب الرئيسي التي تمثّل مصالحه، وأيضاً للخصم، فتقوم بتقدير حجم المخاطر على الطرفين، كما أن الدول تذهب، فيما يعرف بسياسة «حافة الهاوية»، إلى أقصى ردود الفعل، من أجل إبطال استخدام الخصم لمخاوفها، وهي بذلك تغامر بكل شيء، من أجل القول بأنها لا تخشى من وصول الأمور إلى ذروتها، لكنها في حقيقة الأمر تكون بذلك قد استخدمت واحدة من أقدم التقنيات النفسية للدفاع عن وجودها ومصالحها، والمتمثلة بنفي الخوف، ودفع الخصوم للإحساس بالخطر من طرف لم يعد يخاف من أي شيء، حتى لو كانت نهايته.
في السياسة، هناك دائماً استثمار للمخاوف، بل إن السياسة في وقت من الأوقات تصبح مجرد حالة استثمار في المخاوف، بعيداً عن أي روح أخلاقية للسياسة، بوصفها عملية تنظيم راقية للمصالح، وعدم تحويل التنافس إلى صراع، من شأنه أن يحطّم المصالح المتنافس عليها، حيث تصبح الحرب، المباشرة، أو بالوكالة، هي السيناريو الوحيد، بدلاً من اللجوء إلى العمل الدبلوماسي والتفاوضي، المبني على الطروحات العقلانية، التي تأخذ بالحسبان مخاوف ومصالح جميع الأطراف.
في عالمنا العربي، ومنذ عقود ما بعد الانتدابات، أصبحت السياسة عملية تكرار لا نهائية للاستثمار في المخاوف، ففي لبنان تمّ تحويل الآخر المختلف دينياً ومذهبياً إلى خطر داهم، يجب الترصّد له دائماً، والحشد ضدّه بالأدوات ذاتها، أي التمترس الديني والمذهبي، ولم تكن نهاية الحرب الأهلية كافية للخروج من هذا المسار، بل تمّ تعميق عملية الاستثمار في الخوف، من أجل الإبقاء على مصالح الطبقات الإقطاعية السياسية، والتي تناغمت فيما بينها، ومارست التكتيكات نفسها، من أجل البقاء في صدارة الزعامة السياسية، وممثلة لطوائفها.
مجمل الأنظمة السياسية في العالم العربي، مارست أنواعاً مختلفة من الاستثمار في الخوف، فقد أشاعت ورسّخت تلك الأنظمة قناعة لدى شعوبها بأنها الوحيدة الضامنة لبقاء المجتمع آمناً، وأن أي إخلال بموقعها في السلطة سيعني ذهاب البلاد إلى حالة من الفوضى، والفلتان الأمني، وبالطبع، فإن إمساك سلطة سياسية ما بزمام الحكم على مدار عقود، من الطبيعي بمكان حينها أن تصبح الطرف الوحيد القادر على ضبط المجتمع، ليس لأنها الأصلح، والأكثر كفاءة، بل لأنها قتلت جميع الممكنات والبدائل في المجتمع والاقتصاد والسياسة.
الإسلاميون أيضاً، ومنذ نشوء جماعة الإخوان المسلمين في نهاية العقد الثالث من القرن الماضي، استثمروا في مخاوف الشعوب، وخصوصاً الفئات الأكثر فقراً وتأخراً، فقد طرحوا أنفسهم بوصفهم الجهة المدافعة عن العقيدة، في مقابل وضد الأنظمة السياسية، التي لا همّ لها سوى «إبعاد الشعوب عن العقيدة»، وذلك بالتآمر مع «الغرب الكافر»، وهو الأمر الذي وجد نوعاً من المزاودة لدى حركات الإسلام الجهادي، والتي رفعت راية الجهاد ضد كل مختلف مع العقيدة الإسلامية، وبالتالي وضعت نفسها كمخلّص للشعوب من «عبودية الأنظمة الكافرة».
الحركة الشعبوية في الغرب، ومنذ سنوات، وهي تستثمر بشكل مطّرد في الخوف من الإسلام والمهاجرين والمختلفين ثقافياً، حتى أن برامج الأحزاب الأوروبية اليمينية المتطرّفة أصبحت متشابهة في عناوينها، حيث تتصدر قضيتا الإسلاموفوبيا والمهاجرين برامجها السياسية، وهي تحصد نتائج أفضل كلّما زادت قدرتها على تضخيم المخاوف، وتحويل الآخر إلى عدو يجب مكافحته والقضاء عليه، قبل أن يقضي على ما يسمى «المنجز الحضاري الأوروبي».
لم يعد الحديث عن حاجة الشعوب إلى السلام والازدهار والرفاه شائعاً في السياسات العالمية اليوم، فقد غدا الاستثمار في الخوف هو البضاعة الأكثر رواجاً، في ظل غياب منظومات دولية وإقليمية مستقرّة، وحروب مشتعلة على أكثر من جبهة، وصراعات اقتصادية شرسة، ما يجعل من الاستثمار في الخوف البند الأول على قائمة جميع الأطراف.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"