الصين: التاريخ يعيد نفسه؟

00:38 صباحا
قراءة 5 دقائق
في سنة 1800 كان الاقتصاد الصيني الأكبر في العالم . كان منفتحاً ومعتمداً اقتصاد السوق أكثر من أوروبا . خلال السنوات ال 175 التي تلت، تعثر وضعه لرفض المسؤولين اعتماد موجة التصنيع التي عمت العالم . بقي الاقتصاد الصيني بدائياً وزراعياً وحرفياً وبقيت الأوضاع المعيشية سيئة حتى في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، أي قبل تطبيق الاصلاحات الجدية . كان وقتها غذاء الفرد الصيني غير كاف ولم يكن لديه الادخار المناسب، كما حصل لاحقاً . نسبة الادخار الوطني من الناتج تتعدى ال 50% اليوم وهي من الأعلى عالمياً وتسمح للصين بإقراض بعض دول الغرب وفي مقدمها الولايات المتحدة . أما نسبة الاستثمارات المحلية فتفوق ال 45% من الناتج وهي ممولة من الداخل . ثلاثة عقود ونصف العقد من الإصلاحات تحققت خلال النصف الثاني من القرن الماضي وانتجت التقدم والتطور والنمو المدهش الذي ما زال مستمراً وإن بنسب أدنى . تغيرت معالم الاقتصاد الصيني نتيجة الإصلاحات، أي تدنت حصة الزراعة وتعززت مكانة الصناعة، وثم أتى دور الخدمات الذي ترافق مع ازدهار المدن وانتقال العديد إليها . تحول المجتمع الصيني من تقليدي الى آخر معتمد على التكنولوجيا حتى في أبسط المهمات الاستهلاكية والإنتاجية .
ضمن الإصلاحات التي طبقت، وما زالت هي السياسة السكانية التي سمحت للزوجين بإنجاب طفل واحد منعاً للانفلاش السكاني الذي يقضي على النمو في دولة وضعت التطور الاقتصادي في أول أولوياتها . انخفضت نسبة الانجاب من 34،03 لكل ألف شخص في سنة 1957 إلى 01 .23 في سنة 1975 وإلى 25 .18 في سنة 1978 أي قبل بدء تطبيق سياسة الطفل الواحد في سنة 1980 . من أسباب الانخفاض الانجابي الحر دخول المرأة الى سوق العمل وانتقال العديد من الصينيين إلى المدن، حيث تكون عموما النسب أدنى بسبب التكلفة والوعي الثقافي والتواصل الاجتماعي . ارتفعت نسبة مشاركة المواطنين في أسواق العمل بسبب المشاركة النسائية المتزايدة وعدم القدرة أو الرغبة في الإنجاب .
ارتفعت نسبة الانجاب إلى 33 .23 لكل ألف صيني في سنة 1987 على الرغم من سياسة الطفل الواحد لأن المواطنين أصبحوا عموماً أغنى، وبالتالي تزوجوا أكثر في الريف . انخفضت النسبة إلى 86 .12 في سنة 2002 بسبب الانتقال المتزايد الى المدن للعمل والسكن . في الريف يسهل الإنجاب لأن الطفل يعمل منذ نشأته في الزراعة وبالتالي يسهم في معيشة العائلة . في المدن وكما نعرف، ترتفع تكلفة التربية والغذاء والسكن إلى حدود لا يعرفها الريف، كما أن الأطفال لا يصبحون منتجين إلا مؤخراً . لذا تنخفض نسب الإنجاب دائماً في المدن في كل المجتمعات .
فوائد سياسة الطفل الواحد واضحة اقتصادياً، الا أن لها مساوئ كبيرة يمكن تلخيصها تبعاً للكاتب "غريغوري شاو" في كتابه "تفسير الاقتصاد الصيني" كالآتي:
أولاً: الأطفال هم المستقبل والاستثمار بهم يؤدي الى تطوير الإنسان ورفع إنتاجيته . الحد من عدد "الرأسمال الإنساني" المستقبلي يمكن أن يؤثر سلباً في تطور الاقتصاد وإنتاجيته .
ثانياً: ليس صحيحا دائماً أن السبب الأساسي للحد من الإنجاب هو عدم قدرة الأهل على تعليم أولادهم . النوعية هي أفضل من الكمية، إلا أن هنالك دولاً تساعد العائلات على التربية والتعليم وكافة الحاجات الإنسانية . موازنة العائلة ليست هي دائماً الممول الوحيد لحاجات الأطفال .
ثالثاً: أدت سياسة الطفل الواحد الى إنتاج أجيال غير عادية لأنها تربت في منازل من دون أشقاء وشقيقات، وبالتالي تشعر بالوحدة منذ نشأتها . العائلة هي مكان التواصل والنقاش خاصة بين الأفراد من الأعمار المتقاربة .
رابعاً: السماح بطفل واحد فقط رفع من عدد الولادات غير الشرعية أي خارج مؤسسة الزواج وبالتالي خلق مشكلة تسجيلهم في القيود الرسمية . وتعززت هذه الأوضاع في الأرياف حيث تكلفة تربية الأطفال تبقى أدنى من المدن .
خامساً: تحديد النسل خلق مشكلة عدم توافر يد عاملة كافية في العديد من المدن والأرياف كما في القطاعات الاقتصادية كافة . الاقتصاد الكبير يحتاج إلى أعداد سكانية كبيرة لتسيير الخدمات والمرافق والحاجات الاقتصادية وغير الاقتصادية الضرورية للحياة .
من ناحية أخرى، هنالك فوائد كبيرة للعدد السكاني الكبير منها إمكانية انتقاء الأفضل لكل القطاعات والمهن والأعمال والعلوم والآداب، وهذا لا يتوافر في دول عدد سكانها قليل . الدول التي تنجح رياضياً مثلا هي التي تحتوي عموماً على عدد سكان كبير بحيث تتعزز سياسات الاختيار والانتقاء والتنافس . كما أن حجم الأسواق الداخلية يرتبط الى حد بعيد بعدد المواطنين ليس في الاستهلاك فقط وانما أيضا في الاستثمار والإنتاج والإبداع والابتكارات . الاستثمارات الأجنبية المباشرة تفضل الأسواق الواسعة أي حيث يكون عدد السكان كبيراً . ولا ننكر أن للقوة الشرائية أهمية كبرى في كافة المواضيع التي ذكرنا، انما يبقى للعدد تأثير لا يمكن تجاهله . أخيراً يجب على الدول القوية، التي لها، أو ترغب في أن يكون لها تأثير خارجي كبير، أن يكون لها عدد سكاني كاف للجيوش وللتدخل إذا اقتضت الحاجة أو المصلحة . هل من الممكن تخيل قوة سياسية عالمية مع عدد سكاني قليل؟ كل الدول الحديثة القوية من الولايات المتحدة الى الاتحاد السوفييتي السابق وروسيا اليوم كما الصين ومستقبلاً، أيضاً الهند والبرازيل، تحتوي على أعداد سكانية كبيرة .
هنالك تعديل حديث في السياسة السكانية بحيث يمكن للوالدين الوحيدين أن ينجبا طفلين . تفكر الحكومة الصينية بتعميم قرار الطفلين للجميع لكن هذا لم يحصل بعد . يأتي مشروع التغيير في ظل الانتقال المتزايد للمواطنين من الريف الى المدن كما في ظل تزايد العمالة النسائية المتعلمة والمثقفة، ليس لتطوير المعيشة فقط وإنما أيضاً لرفع مستوى السيرة الذاتية في كل القطاعات والمهن . تتعلم الصين من سوء تأثير الانخفاض السكاني في أوروبا في الاقتصاد، وتريد تجنبه قبل أن يحصل لصعوبة المعالجة فيما بعد .
التحديد السكاني في الصين كانت له إيجابيات اقتصادية، لكن له أيضاً وكما ذكرنا، سيئات لدولة تريد أن تصبح عظمى من جديد ليس فقط في جيشها وإنما خاصة في اقتصادها ونفوذها الدولي . دخول الصين الى نادي الدول الكبيرة يفرض تغييرات أساسية في العلاقات والمواقع ويؤثر في العديد من النزاعات الحالية والمستقبلية في إفريقيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية وغيرها . السياسة المنكفئة التي تعتمدها الصين ستزول أو تتغير تدريجياً حتى سنة 2020 عندما تصبح القوة الاقتصادية الأولى . هل يستمر النهوض الصيني وما هي أبرز العوائق والتحديات؟
أولاً: ارتفاع فجوة الدخل بين الريف والمدن وتجاهل السلطات المركزية والمحلية لحاجات الريف الحقيقية، من بنية تحتية وفوقية ومنافع اجتماعية . الهند تجنبت هذا الخطر لأنها لم تعرف النمو القوي المتواصل كالصين وبالتالي عالجت المشكلات تدريجياً عندما حصلت .
ثانياً: يشتكي المزارعون من سوء المعاملة وهذا خطر ومضر في دولة ما زال يعتمد اقتصادها كثيراً على الريف والزراعة التي تشكل 10% من الناتج ويعتاش منها 7 .36% من اليد العاملة مقارنة ب7 .28% في الصناعة و6 .34% في الخدمات .
وتجنبت الهند هذه المشكلة وراعت ظروف مزارعيها في أصعب الظروف .
ثالثاً: نجحت الصين في الماضي في نسخ التكنولوجيا الغربية وتطويرها وإنتاج السلع بتكلفة منخفضة . هل يمكنها الاستمرار في هذه السياسة مع تطور اقتصادها ليصبح الأقوى؟
هل يمكنها أن تقود العالم في البحث والتطوير؟ المطلوب انفتاح سياسي ومؤسساتي وقانوني كي تكتمل الحلقة الفاضلة وتستمر في النجاح .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"