العرب والعقدة الحزيرانية

04:28 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. عبدالعزيز المقالح

يبدو أنها خاصية عربية تلك التي تجعلنا - دون أن ندري - نجتر مآسينا، ونعيد ونكرر الحديث عنها وكأنها حدثت اليوم، وربما تعود هذه الخاصية إلى أزمنة البكاء على الأطلال، رغم أن العرب كانوا قد تجاوزوها وسكنوا المدن وبنوا القصور وأبدعوا في بناء الحدائق. وليس عيباً أن تتذكر الشعوب مآسيها وما عرفته في تاريخها القديم والحديث من هزائم وانكسارات، لكن العيب أن تقف عندها نائحة مولولة، كما هو الحال في نكسة أو هزيمة يونيو/حزيران 1967، تلك التي تجاوزها العرب بإجماعهم ووقوفهم صفاً واحداً، ونجحوا في تجاوز تلك الهزيمة ومحو آثارها في الواقع، وإن لم يمحوا آثارها في نفوسهم المغرمة بالبكاء على الأطلال، فهم يقيمون مناحاتهم و سرادقات العزاء كلما هلّت الذكرى المشؤومة.
ولو أنهم قد تخلصوا من هذه العقدة الحزيرانية، ما شهدوا بعدها بسنوات وعقود هزائم أبشع وانكسارات أقسى مما حدث في يونيو/حزيران 1967م، لكن قاعدة بكاء الأطلال، أنستهم انتصار أكتوبر العظيم، وشرعوا في تهيئة أنفسهم بصراعات مهّدت لما جاء وما صار بحق يستحق المزيد من المناحات والبكاء.
شعوب كثيرة تعرضت لانكسارات وهزائم أبشع وأخطر مما تعّرض له العرب في حزيران 1967م، ومع ذلك فقد دفنت قتلاها ولملمت جراحها وبدأت في مقاومة أعدائها بوسائل لا حصر لها، وفي أقل من عقدين أو ثلاثة عقود من الزمن استطاعت شعوب مهزومة ومدمرة أن تستعيد كيانها وتسترجع وجودها المؤثر، ولتكن اليابان - على سبيل المثال- هذا البلد الذي خرج من الحرب العالمية الثانية محطماً وجريحاً حتى العظم، وصار عليه أن يخضع لاحتلال طويل المدى، لكنه لم يتجه نحو المناحة على ما فات، بل اتجه إلى العمل بكل طاقاته، كانت البداية فاشلة بعض الشيء لكنه واصل تحدياته للغزو بطريقته الخاصة، وبدأ إنتاجه الصناعي والعلمي يوازي إنتاج غزاته ثم ارتقى إلى أن تفوق عليهم، وبدأ يغزو الأسواق العالمية بقوة، بما فيها أسواق الغزاة. وصارت اليابان عضواً في الأمم المتحدة وتطمح أن تكون عضواً في مجلس الأمن، لم تنس مأساتها ولا تناست ضحاياها، لكنها عرفت كيف ترد على أعدائها وتحتفي بشهدائها.
قد يقول قائل: اليابان شعب موحد في حين أن العرب أشتات مبعثرة، وهذا صحيح، ولكن ما يمنع هذه الأشتات من أن تلملم نفسها، وأن يعي أبناؤها أنهم أبناء أمة واحدة، وأن يتوحدوا في تكتل قومي أو اتحاد سياسي واقتصادي على غرار الاتحاد الأوروبي؟ إنه سؤال مطروح على هذا الصعيد منذ عشرات السنين وقد تناولته الكتابات حد الملل، إلاَّ أنه ظل معلقاً على الهواء أو مكتوباً على الماء. وكان عليهم أن يتذكروا انتصار 6 أكتوبر 1973م بدلاً من تذكر حزيران 1967م، وأن يجدوا في ذلك الانتصار أمثولة من خلالها وبها يستعيدون حريتهم وكرامتهم ويفرضون وجودهم على المجتمع الدولي، وإمكاناتهم البشرية كإمكاناتهم المادية والاستراتيجية تجعل من وطنهم الكبير قوة عالمية لا يستهان بها ولا تستطيع قوة ما أن تتحداها.
المشكلة كما يقول المفكرون والباحثون أعمق من عقدة مستحكمة وأكبر من هزيمة عابرة. فقد أقنعتهم القوة المتنفذة كما أقنعوا أنفسهم بأن ما حدث في حزيران المشؤوم كأنه الانكسار النهائي وآخر سطر في تاريخ العرب المعاصرين. وما أسوأ الأوهام حين تستولي على الشعوب وتفقدها إحساسها بالزمن، وإحساسها بأهميتها.

إن العرب - لو يعلمون- أحوج ما يكونون إلى صحوة وطنية وقومية تخلع عنهم حالة اللامبالاة وتحررهم من بؤس الاختلافات والانصياع بلا وعي أو إدراك حقيقي لما يقوله الأعداء، وما يروجون له من أن المخاطر التي تهددهم عربية داخلية وليست أجنبية خارجية، والغريب أنهم لا يتذكرون من الضربة الحزيرانية إلاَّ أنها هزيمة عربية شاملة، ولا يتذكرون أنها صناعة أجنبية مرتبة وشارك فيها الغرب الأوروبي والغرب الأمريكي. ومن حقنا كعرب أن نقسو على أنفسنا وننتقد الحالة الراهنة التي وصلنا إليها، لكن ليس من حقنا ولا يجوز لنا أن نصادر أحلامنا ونشكك في قدرتنا، وأن نثق دائماً بأننا مثل سائر البشر وأنهم لا يتميزون عنا في شيء.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"