الناتج المحلي والتحولات المطلوبة

03:52 صباحا
قراءة 4 دقائق
يقيس الناتج المحلي الإجمالي مجموع الإنتاج النهائي للسلع والخدمات في اقتصاد معين خلال فترة زمنية محددة . يستعمل الناتج الحقيقي لتقييم حجم الاقتصاد وتطوره من سنة إلى أخرى، أو ما يعرف بالنمو . للمقارنة بين الاقتصادات، لا بد من استعمال مؤشرات مكملة كالناتج الفردي الذي يقيم مستوى المعيشة أو ناتج العامل الواحد الذي يقيم الإنتاجية الدافعة الأساسية للنمو والتطور . تصدر الاقتصادات المتطورة إحصاءات عن الناتج فصلية وحتى شهرية كي يستطيع المتابعون والمسؤولون تقييم الأوضاع ومعالجة الخلل قبل تفاقمه . تصدر الاقتصادات العادية أرقاما سنوية وأحيانا متأخرة سنة أو أكثر عن قيمة الإنتاج الوطني وكيفية تقسيمه بين مكوناته الأربعة أي الاستهلاك والاستثمار والإنفاق الحكومي والميزان الخارجي الصافي للسلع والخدمات . بدأ استعمال الناتج كمؤشر أساسي عن حجم بل قوة الاقتصاد في ثلاثينات القرن الماضي . أبرز الاقتصاديين الذين كونوه وطوروه هو "سيمون كوزنيتس" Kuznets الروسي الأبيض في الأصل الذي هاجر إلى أمريكا للعمل وحصل على جائزة نوبل للاقتصاد لسنة 1971 .
الناتج المحلي الاجمالي هو الرقم المستعمل الأكثر في العالم، ليس لأنه مثالي وإنما لعدم وجود إحصاءات أفضل تقيم الأوضاع الاقتصادية وتبدلها . من نواقص الناتج عدم إدخاله عمل ربات المنازل غير المقيم بالإحصاءات، لكنه يؤثر بشكل كبير ومباشر في الاقتصاد والأوضاع العائلية والإنسانية . كيف يمكن تجاهل السنوات الطويلة للعمل المنزلي المهم المؤثر في تربية الأولاد ومستقبلهم . يقول العديد من الاقتصاديين أن السنوات القليلة الأولى التي يمضيها الأطفال في المنزل مع الوالدين وخاصة الأم هي الأهم في الحياة والأشد تأثيراً في تفكير ونضوج الطفل . يتبعها في الأهمية المدرسة الابتدائية التي تكمل ما بناه الأهل من قبل، مع ضرورة الاستمرار في الإشراف النوعي من قبلهم . من الموضوعات الأخرى التي يتجاهلها الناتج هو التلوث وتكلفته والذي يأتي من الإنتاج والاستهلاك، ما يؤثر في صحة الإنسان ونوعية حياته . هنالك أمور أخرى يتجاهلها الناتج ومن بينها التطور التكنولوجي .
حاول الكثيرون ومن بينهم "جو ستيغليتز" إيجاد مؤشرات أخرى تقيم، إضافة إلى الإنتاج المادي، الأوضاع الاجتماعية والإنسانية والنفسية . فشل بسبب دقة وصعوبة تقييم الأوضاع النوعية، كسعادة المجتمع والاطمئنان والارتياح كما الاكتفاء الذاتي والعام والقناعة والرضى وغيرها، إضافة إلى كل النشاطات المرتبطة باللهو والعطل والفراغ التي يحتاج إليها كل مواطن لمواصلة العمل وتحسين صحته وأوضاعه النفسية والإنسانية . مثلاً: الناتج المحلي الإجمالي في لبنان هذه السنة أعلى بقليل من ناتج سنة ،2013 لكن الجميع يؤكد أن القلق ارتفع، وبالتالي أوضاع المجتمع أسوأ نفسياً وشبابياً وسياسياً . لا شك أن هذه الأوضاع اذا ما استمرت ستنعكس على أرقام الناتج، إذ لا يمكن الحفاظ على مستوى الإنتاجية الحالي إذا بقي اللبنانيون غير راضين عن أوضاع بلدهم .
هنالك اقتصادات أخرى نجحت في تطوير ناتجها الإجمالي في أجواء استقرار عامة ومنها المكسيك وبولونيا وكوريا الجنوبية . لم نعد نتكلم اليوم عن الاقتصاد الصيني كالماضي، إذ نجح بتفوق وتجربته أصبحت معروفة . ضعف النمو الصيني مؤخراً، لكن هناك اقتصادات أخرى استفادت من التجربة الصينية لتنجح هي أيضاً . لم يعد يكفي الاتكال فقط على إنتاج وتصدير مواد أولية للنمو والازدهار، بل أصبحت مصادر النمو متكاملة ومعقدة وشاملة . فلنأخذ مثلاً الاقتصادات التي اتكلت على النفط للنمو وتمويل الحاجات من بنية تحتية واجتماعية وغيرها . هناك اكتشافات لمصادر طاقة جديدة مرتكزة على تكنولوجيا حديثة نقلت اليوم الولايات المتحدة من مستوردة إلى مصدرة للنفط .
في المكسيك مثلاً تغيرت الأوضاع كثيراً مع انتخاب الرئيس الجديد "انريكي بينيا نييتو" منذ سنة والذي أعطى دفعاً جديداً للاقتصاد بفضل حيويته الشابة وسياساته الجديدة . قبله تدنى النمو الاقتصادي وتبعا لصندوق النقد من 3،6% في سنة 2012 إلى 1،2% في سنة 2013 . ارتكز الرئيس على الغنى المادي الموجود في المكسيك ومن بينه النفط واستفاد إلى أقصى الحدود من السوق الأكبر في العالم الموجود شمال الحدود . مع انتخاب الرئيس الجديد اعتقد العالم أجمع، ومن ضمنه المؤسسات الدولية المعروفة كالبنك وصندوق النقد الدوليين، أن وقت النهوض المكسيكي قد حان وها هي النتائج الايجابية تبدأ بالظهور مع تحول الاقتصاد تدريجياً من متكل على المواد الأولية إلى مرتكز على الصناعة والخدمات . انتقلت المكسيك من الاقتصادات المنغلقة نسبياً إلى الأخرى الأكثر انفتاحاً في العالم . ليس صحيحا أن الاتجاه العالمي الحالي هو في العودة إلى تدخل أكثر للقطاع العام في الاقتصاد، إنما الصحيح هو أن السياسات العامة تختلف بين دولة وأخرى تبعاً لأوضاعها ومصالح شعوبها .
هل أصبح الاقتصاد المكسيكي الأفضل أو الأمثل في العالم؟ حتماً لا، إذن تبقى تحديات كبرى تواجه الرئيس الجديد ومنها الأمن والفساد وتطوير وتحديث البنية التحتية كما الفوقية الضروريتين للنمو في الاقتصاد الحديث .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"