اليمن بين «سبتمبرين»

04:01 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسن العديني

في 19 سبتمبر/ أيلول 1962 توفي إمام اليمن الطاغية أحمد يحيى حميد الدين، وفي اليوم الثالث، أي في ال 12 من الشهر نفسه، بويع محمد ابنه ملكاً، واتخذ الأخير لقب المنصور تيمناً بجده محمد المنصور، والد الإمام يحيى، ومؤسس أسرة حميد الدين، ولم تكن الصفة فألاً حسناً، ففي اليوم السابع تلقى المنصور هزيمة ساحقة أودت بالملكية، وأسقطت فكرة الإمامة من أساسها عندما انقض عليها نفر قليل من صغار الضباط في حركة انقلابية، سرعان ما تحولت إلى ثورة شاملة.
تبدى الوجه الثوري ل 26 سبتمبر من صباحها الباكر في الحماس، والالتفاف الشعبي الكاسح، وفي انخراط شباب اليمن من كل أرجائه في معركة الدفاع عنها، أمام محاولة استعادة العرش المنهار، كما في إلهام الطلائع الوطنية في الجنوب بإطلاق شرارة ثورة 14 اكتوبر 1963، ثم في تحولات اقتصادية واجتماعية عميقة على طول وعرض خريطة اليمن الطبيعية، رغم العثرات والإخفاقات التي صاحبت مسيرة الثورتين .
ولا يتسع المجال لسرد أسباب الوقوع في الانتكاسات التي يمكن تلخيصها تحت عنوان التساهل مع القوى المشدودة إلى الماضي، ذلك أدى إلى كارثتين، أولاهما وضع أهم إنجاز الثورتين، المتمثل في الوحدة اليمنية موضع التساؤل من قبل قطاعات في الجنوب، وحتى في الشمال، والتفكير في العودة إلى دولتي ما قبل مايو/ أيار 1990، والثانية إطلالة الإمامة بوجه شرس في رغبة جامحة لإحياء الحكم السلالي البائد بكل ضلالاته، وظلماته. هناك صعوبة بالغة في توصيف حكم الأئمة في اليمن، وصعوبة أكبر في فهم المعنى، ذلك أن الكلمات تستعصي، والأذهان لا تصدق. إن كلمات مثل «الاستبداد»، و»الاستغلال»، و»القمع»، و»النهب»، و»العبودية»، تتواضع أمام طغيان لا نظير له في التاريخ، وقبالة جبروت لم يخلف سوى الجوع والهوان، وكان الجهل أمضى أسلحة الطغاة في فرض سلطانهم.
من هذا الباب المخلوع أطل دعاة الولاية والحق المقدس بمناقير مغروسة بالسم واتجهوا إلى تدمير كل ما يرمز لثورة 26 سبتمبر، وما يشير إلى مفاخرها، وإنجازاتها، حتى اليوم لم يسقطوا المناسبة علانية من القاموس الوطني، واكتفوا بإضفاء الأهمية القصوى لما اطلقوا عليها ثورة 21 سبتمبر، يوم إسقاطهم صنعاء، كما أنهم لم يتجرأوا على تغيير مسمى الدولة وتوقفوا عند خلع اسم قائد المسيرة القرآنية على إمامهم الجديد، والحال أن سعيهم حثيث لإطفاء شعلة العلم، فقد غيروا مناهج التعليم وزرعوا الجهل والخرافة في مقررات التاريخ، والتربية الوطنية، والسيرة النبوية، والحديث، والقرآن، إلى درجة أنهم اختاروا في كتاب الله آيات ألبسوها تفسيرات غريبة لتأييد حق الولاية لسلالة يدّعون الانتساب إليها.
وفي مضمار إزالة الرموز الدالة على الكفاح الوطني، قاموا بأعمال خسيسة مثل تكسير المجسم المقام في ميدان التحرير بصنعاء لما سمي بمارد الثورة، وأنشأوا بدلاً منه حمامات عمومية، وبدل الحوثيون مسمى ميدان السبعين، وقد أطلقت التسمية من واقع أنه المطار القديم في المدينة الذي شهد نشاطاً كثيفاً للطيران الحربي في معركة فك الحصار عن صنعاء التي دامت سبعين يوماً (1 ديسمبر 1967 حتى 8 فبراير 1968)، وهناك في الميدان أقاموا مكان ضريح الجندي المجهول قبراً لرئيس مجلسهم السياسي السابق صالح الصماد، كذلك غيروا أسماء مدارس ومستشفيات وحدائق عامة وساحات وميادين كانت تحمل أسماء رموز وطنية وقومية، وخلفاء، وصحابة للرسول.
هذه الهجمة على التاريخ، وعلى الوطنية اليمنية، والعروبة، والرموز الإسلامية، تشكل استمراراً لفظائع ارتكبها الأئمة في هدمهم الآثار الدالة على الحضارة اليمنية القديمة، وقد كان مثار دهشتي أن الانقلابيين الطامعين إلى استرجاع ما ذهب من آبائهم، أنهم يحيون علاقة قديمة، حين وقع بصري على طوابع بريد أصدرته المملكة المتوكلية اليمنية تحتفي بأسرة شاه ايران السابق محمد رضا بهلوي، في صور انتزعت من الذاكرة معنى دعمه الإمامة المهزومة بعد سبتمبر 1962، وليس في الأمر من فارق سوى انزياح إمبراطور وتهافت دجال، والمعنى الأهم تهشيم جدار الثقافة الوطنية باعتباره خط الدفاع الأول عن الهوية.
في وجه هذا الغثاء يقاوم اليمنيون سطوة 21 سبتمبر 2014 ويبذلون الدم والعرق لإحياء الوجه المشع لثورة ال26 من سبتمبر 1962.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"