برميل البارود في البلقان

05:17 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي
تعيش منطقة البلقان مخاطر جديدة تتعلق بتزايد مظاهر عدم الاستقرار واحتمال عودة المواجهات بين المكوّنات العرقية والدينية المختلفة في هذه الجغرافيا الأوروبية الشديدة التشابك والتعقيد؛ فبعد مرور سنوات قليلة من السلم الهش الذي أسهمت في فرضه القوى القارية والعالمية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، تشهد المنطقة في المرحلة الراهنة بوادر عودة انفجار برميل البارود في هذا المحيط الذي يعج بالتناقضات ذات الجذور التاريخية الموروثة عن المرحلة العثمانية؛ وذلك في سياق دولي يميّزه تخبط السياسة الخارجية الأمريكية بشأن أوروبا وحلف الناتو، إضافة إلى تراجع قدرة دول الاتحاد الأوروبي على اتخاذ مبادرات جدية يمكنها إقناع القوى المتصارعة بأهمية المحافظة على السلم والاستقرار، وتحديداً منذ «البريكسيت» البريطاني الذي تزامن مع انتعاش الأفكار القومية والشعبوية المتطرفة، بفعل تراجع وهج وبريق الأفكار المتعلقة بالوحدة الأوروبية.
ويمكننا القول في هذا السياق، إن خطوط الهدنة والتماس ما بين العرقيات المختلفة، مازالت تعرف الكثير من التداخل في مقدونيا والجبل الأسود، ومازال الصراع في البوسنة والهرسك وفي كوسوفو مفتوحاً على كل الاحتمالات، لاسيما وأن السكان الصرب يرفضون حتى الآن الواقع الجديد الذي فرضته عليهم القوى الغربية بعد تفكك الاتحاد اليوغسلافي في بداية التسعينات من القرن الماضي. وبالتالي فإنه ومع مرور الوقت، يتضاعف الإحساس لدى الأغلبية الساحقة من سكان المنطقة أن الأوضاع مرشحة للتفاقم خلال السنوات القليلة المقبلة، بفعل الاستقطاب الدولي والإقليمي الذي يُسهم بشكل لافت في إعادة إحياء الخلافات التاريخية الموجودة ما بين المكونات السكانية المختلفة في المنطقة؛ حيث إنه وبالتزامن مع تراجع قوة النفوذ الغربي بقيادة واشنطن؛ فإن النفوذ الروسي والتركي يتزايد من حيث مستوى الانتشار والتأثير. ومن غير المستبعد بالتالي، أن تدفع المنطقة في المستقبل القريب، ثمن الخلافات الروسية الأمريكية الراهنة، لاسيما في هذه المرحلة التي يصرّ فيها اليمين الأمريكي على مهاجمة المصالح الروسية في محيطها الجيوسياسي من أجل إجبارها على تعديل خياراتها الإستراتيجية.
ويذهب الكثير من خبراء السياسة الدولية ومن بينهم لوران جيسلان وجان آرنو ديرانس، إلى أن البلقان تمثل في المرحلة الراهنة إحدى المناطق الرئيسية التي ستجري فيها تصفية الحسابات السياسية والإستراتيجية ما بين الدول الكبرى في سياق المواجهة التقليدية ما بين واشنطن وموسكو؛ حيث تشهد هذه المنطقة الآن تطورات في منتهى الخطورة على مستقبل السلم في العالم. وقد بدأت معالم هذه المواجهة تتضح حتى قبل بروز تداعيات ما أصبح يعرف لدى الكثير من الأمريكيين ب «روسيا-جيت»، فقد سبق لوزير الخارجية الأمريكي السابق جون كيري أن صرح في فبراير/شباط من سنة 2015، أن «خط النار» ما بين الغرب وروسيا يمتد من مولدافيا إلى الجبل الأسود، مروراً بسكوبي في مقدونيا وبريشتنا في كوسوفو. وبدا واضحاً بالنسبة للمراقبين أن هذه التصريحات السياسية الحادة والمتشددة، كانت تهدف في الأساس إلى دفع النخب السياسية في عواصم المنطقة إلى التخلي عن السياسات الرمادية واختبار معسكرها وتجاوز خطاب بلجراد المتعلق بعدم الانحياز التاريخي في الصراع الدائر ما بين موسكو وواشنطن.
هناك بالإضافة إلى ما تقدم، صراع قوي داخل الجبل الأسود ما بين النظام الموالي للغرب والذي يسعى إلى انضمام هذا البلد إلى حلف الناتو، والمعارضة التي يتهمها النظام بالتحالف مع موسكو. ويتكرر هذا المشهد المتأزم في مجمل دول البلقان، وبخاصة في البوسنة التي يسعى فيها الصرب إلى إعادة النظر في اتفاقية دايتون الموقعة سنة 1995 بضغط كبير من الولايات المتحدة الأمريكية، ويعلنون صراحة معارضتهم للسلطة المركزية في سراييفو. ونستطيع أن نلاحظ في السياق نفسه، أن هناك عودة قوية لبوادر التوتر ما بين صربيا وكرواتيا، حيث تسعى بلجراد إلى الحصول على مزيد من الأسلحة الروسية بالتزامن مع قيام زغرب بإبرام صفقات من أجل شراء أسلحة أمريكية وفي مقدمها طائرات هيلكوبتر من طراز بلاك هوك. أما بالنسبة للوضع في مقدونيا؛ فإن الملاحظين الغربيين يخشون من لجوء سلطات هذا البلد إلى استخدام ورقة الشعور القومي من أجل البقاء في السلطة وتجنب تحمّل تبعات التدهور الاقتصادي، الأمر الذي يرفع من مستوى مخاطر دخول هذا البلد في حرب أهلية مدمّرة نتيجة لوجود أقليات عرقية مختلفة من أبرزها العرقية الألبانية التي يصل تعدادها إلى 25 في المئة من العدد الإجمالي للسكان، إضافة إلى أقليات من الصرب والأتراك والبوسنيين والروم..إلخ.
ونستطيع أن نخلص في سياق هذه المقاربة، إلى أن تجربة تأسيس كيانات وطنية متعددة الأعراق بعد انهيار الاتحاد اليوغسلافي، فشلت إلى حد كبير، لأنها لم تأخذ في الحسبان الخصوصيات التاريخية للمنطقة التي مازالت مؤثرة في المشهد السياسي العام، وفضلاً عن ذلك فإن الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة تعاملت بتساهل كبير مع الزعماء القوميين الذين لعبوا دوراً كبيراً في الحرب الأهلية التي شهدتها البوسنة في مطلع التسعينات، وسمحت لهم بأن يكونوا فاعلين أساسيين في مستقبل المنطقة؛ ومكنتهم هذه الوضعية من إعادة ترتيب أوراقهم تحسباً لإمكانية الدخول في صراع جديد، وقد ينتهي بهم الأمر مستقبلاً إلى ابتزاز الدول الغربية مرة أخرى من أجل الحصول على تنازلات جديدة. وستكون مثل هذه التطورات من دون أدنى شك، في غير مصلحة الأقلية المسلمة التي لن يكون نصيبها في عهد ترامب أفضل من النصيب الذي حصلت عليه في عهد بيل كلينتون، ومن غير المستبعد بالتالي أن تفرز التحولات الراهنة تأثيرات أكثر سوءاً على مستقبل أوروبا التي تمر بمرحلة ضعف غير مسبوقة، وقد يفضي اشتعال جبهة البلقان إلى القضاء على ما تبقى من ثقافة التعايش السلمي ما بين العرقيات والأديان المختلفة في هذه القارة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"