توزيع القوة الناعمة في أوروبا

04:22 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي
شهدت القارة الأوروبية خلال السنوات الأخيرة تحولات كبرى على مستوى ما يمكن تسميته بإعادة توزيع عناصر القوة الناعمة داخل دول الاتحاد وخارجه، وتميزت هذه التحولات بديناميكية أكبر منذ تصويت غالبية الشعب البريطاني على خيار الخروج من الاتحاد الأوروبي، ليبدأ بعد ذلك مباشرة تنافس غير مسبوق داخل القارة العجوز ما بين مختلف الدول من أجل كسب مزيد من مساحات الانتشار والتأثير، وصولا إلى محاولة بلورة استراتيجيات جديدة تتعلق بمقومات القوة الرمزية التي تسمح لكل دولة بفرض تأثيرها ونفوذها على مجمل الجغرافيا السياسية لأوروبا.
سنحاول التركيز في هذه العجالة، على ثلاث دول أوروبية رئيسة هي بريطانيا وفرنسا وألمانيا إضافة إلى مجموعة الدول الاسكندنافية، من منطلق قناعتنا أن دول أوروبا الشرقية لا تمتلك حتى الآن مقومات حضارية مستقلة تسمح لها بفرض أجندتها السياسية الخاصة. نستطيع أن نلاحظ بداية، أن الموقف البريطاني في أوروبا كان يتميّز دوماً بالخصوصية والاستقلالية، فقد رفضت لندن في غمرة انتشاء الأوروبيين بنجاحات اتحادهم الجديد، التخلي عن عناصر استقلاليتها وبقيت خارج اتفاقيتي العملة الأوروبية المشتركة وحرية تنقل الأشخاص المعروفة بشينغن، ويكفيها الآن أن تحصل من مفاوضات البركسيت على بعض مزايا السوق الأوروبية المشتركة، لتظل في نظر الكثير من المراقبين، الدولة الأكثر تأثيراً في محيطها القاري بالنظر إلى تنوع عناصر القوة الناعمة التي مازالت تمتلكها، وفي مقدمها اللغة الإنجليزية، التي مازالت اللغة الأولى والأساسية للتخاطب داخل مؤسسات الاتحاد بالرغم من البركسيت البريطاني، وذلك فضلا عن التأثير الثقافي الواسع الذي ما فتئت تمارسه المملكة المتحدة على شمال أوروبا وشرقها.
وتحاول فرنسا من جهتها تعويض فقدانها للكثير من عناصر قوتها الثقافية بعد انحصار لغتها في محيطها الإقليمي، من خلال المراهنة على استثمار خروج بريطانيا من الاتحاد من أجل تحويل باريس إلى مركز مالي أوروبي والعمل على استقطاب جزء من المؤسسات المالية الدولية الكبرى المتواجدة حاليا في لندن، بهدف إضافة عناصر قوة إضافية لباريس بوصفها عاصمة الفنون والموضة والمنتجات الكمالية الباهظة الثمن في أوروبا والعالم. ومن الواضح أن الرئيس الفرنسي الجديد يعمل في المرحلة الراهنة على تعزيز علاقة بلاده مع الولايات المتحدة من أجل الاستفادة من قوتها الناعمة المتعددة الأوجه، سعياً منه إلى كسر الاحتكار البريطاني للشراكة الاستراتيجية مع واشنطن في أوروبا وبخاصة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد، وحاجة البيت الأبيض لشريك موثوق به يستطيع التأثير على ألمانيا التي باتت تمثل، الخصم الأكبر لواشنطن في العالم الغربي. وبالتالي فإن باريس تحاول من خلال استثمار علاقتها المتميزة والمستقرة مع كل من ألمانيا والولايات المتحدة، القيام بترسيخ دورها كقوة «مستقلة» ضامنة للتوازن والاستقرار في أوروبا.
أما ألمانيا التي تحتل المكانة الأبرز في أوروبا من حيث المؤشرات الفعالة للقوة الناعمة، فإنها تمتلك في المرحلة الراهنة الأجندة الأكثر استقلالية من حيث مقومات القوة الناعمة في مواجهة واشنطن ومجموع شركائها الأوروبيين، وتستطيع من خلال إمكاناتها الثقافية والتاريخية أن تلعب دوراً أكثر قوة في وسط وشرق أوروبا، كما تستطيع في اللحظة نفسها أن تستثمر علاقاتها التاريخية مع روسيا من أجل التأثير في توجهات السياسة الخارجية لموسكو. ويمكننا القول في سياق متصل، إن القوة الاقتصادية الضاربة لألمانيا داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي، تثير قلق الكثير من الدول الكبرى وفي طليعتها أمريكا وبريطانيا، وبخاصة بعد أن أصبح الاقتصاد الأوروبي يتنفس عبر الرئة الألمانية، حيث بات من الصعب على دول مثل فرنسا وإيطاليا أن تحافظ على توازنها المالي دون دعم واضح من برلين.
وتمارس السويد بالرغم من صغر حجمها تأثيراً كبيرا في أوروبا من حيث عناصر القوة الناعمة، يتجاوز تأثير دول أكثر عراقة منها في أوروبا مثل هولندا وإيطاليا وإسبانيا، وتبدو المراكز الثقافية السويدية أكثر نشاطاً وحيوية إذا ما قورنت مثلا بالمراكز الثقافية الفرنسية التي ترصد لها ميزانيات ضخمة من أجل دعم الثقافة الفرنكوفونية في شرق أوروبا وفي إفريقيا وآسيا.
بإمكاننا أن نخلص في الأخير إلى أن أوروبا مرشحة في المرحلة المقبلة، لأن تكون بمثابة المسرح الأكثر إثارة للصراعات المرتبطة بمعارك القوة الناعمة في العالم، لأن دول القارة تملك الكثير من مقومات القوة المادية التي يمكنها أن توظف بسهولة في ترسيخ القوة الناعمة، من منطلق اعتقادنا أن حسم المعارك الاقتصادية والثقافية في العالم يتم بداية عبر ممارسة الدول الكبرى لتأثيرها في محيطها الإقليمي. وفي هذه النقطة بالذات تستطيع ألمانيا أن ترسّخ شعورها بالاطمئنان لأن منافسيها مازالوا عاجزين عن إزاحتها عن مركز الصدارة لاسيما بعد البريكست البريطاني.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"