حلم ساركوزي اللاواقعي

05:14 صباحا
قراءة 3 دقائق

لست أدري من الذي وما الذي أقنع الرئيس الفرنسي الجديد نيكولا ساركوزي، بأن حظوظ مشروعه لإقامة الاتحاد من أجل المتوسط، هي أعلى من حظوظ مؤتمر برشلونة السابق والشبيه، والذي تهاوى، حسب وصف الصحف، على أقدام الصراع العربي - الاسرائيلي.

على العكس من ذلك تماماً يمكن لنا الزعم والادعاء بأن حظوظ مؤتمر برشلونة السابق، كانت هي الأعلى، لأنه كان يندفع على موجة ما تبقى من مؤتمر مدريد للسلام، ومن شكل ما من أشكال توجه للإدارة الأمريكية، خاصة في الولاية الثانية للرئيس بيل كلينتون، نحو تجربة واعدة في حينها لإيجاد حل تاريخي ما للصراع العربي - الاسرائيلي.

لكن الأمور بعد ذلك لم تصل إلى حدود الفشل التام لتصورات واحلام الاستراتيجيات التي كانت تحرك مؤتمر برشلونة، تأميناً لسيطرة جديدة للضفة الشمالية المتقدمة للبحر المتوسط على ضفته الجنوبية المتخلفة، قفزاً فوق الصراع العربي - الاسرائيلي وحقائقه الماثلة والمتفاعلة في جميع البلدان العربية على شكل الضفة الجنوبية للبحر المتوسط، إذن لم تفق الأمور عند حدود فشل كل احلام المخططين الاستراتيجيين لمؤتمر برشلونة بل أن الأمور تسير، خاصة في عهد الولاية الثانية للرئيس الأمريكي جورج بوش، من سيئ إلى أسوأ.

لقد وقع نوع من خطأ تاريخي فادح عند من خطط لولادة إسرائيل على أرض فلسطين، عندما ساوى بين حق اليهود في النجاة من الاضطهاد النازي (بل الاضطهاد الأوروبي العام) وبين سلب الفلسطينيين حقهم في العيش على أرض وطنهم، ناهيك عن حقهم بدولة مستقلة، على أرض ذلك الوطن.

أما اليوم، وبعد مرور ستين عاماً على الخطأ الأول، فإنه يتضاعف بخطأ أشد فداحة وظلماً، يرتكبه المجتمع الدولي بأسره، وخاصة الولايات المتحدة والدول الأوروبية الكبرى، عندما أصبحوا يساوون بين دعم حق إسرائيل في الوجود والأمان على الأراضي التي انتزعتها قبل حرب ،1967 وبين الأحلام المجنونة الأولى للحركة الصهيونية بجعل إسرائيل، مهما كانت حدودها الأولى، نقطة انطلاق لإنجاز اسرائيل الكبرى، جغرافياً إذا أمكن (على كل أرض فلسطين وقطع من جوارها ان امكن)، أو انجاز اسرائيل الكبرى سياسياً على الأقل، بفرض خلل في توازن الإرادة السياسية بينها وحدها من جهة، وبين العالم العربي مجتمعاً كله من جهة أخرى.

إن هذا الخلط الشنيع بين حق الحياة وحق الوجود من جهة، وحق السيطرة العسكرية والجغرافية والسياسية لحساب منتزع هذا الحق، ولحساب القوى الخارجية التي لا تكف عن مده بكل أنواع الدعم لانتزاع هذا الحق، لا يقفل الأبواب عملياً عن ايجاد حلول للجريمة الأصلية التي ارتكبت في العام ،1948 والجريمة الفرعية التي ارتكبت في العام ،1967 بل يدفع هذا الصراع المعقد، في هذه المنطقة البالغة الحساسية إلى مسالك خطرة على أمن العالم كله، وليس فقط على أمن الضفة الجنوبية للبحر المتوسط.

في هذه الأجواء الملبدة بالغيوم الداكنة، يأتينا ساركوزي بأحلامه الوحدوية المتوسطية وهي أحلام مبنية من أساسها على تجاهل كامل لتاريخية الصراع في المنطقة، ومتبنياً بالكامل للخلط الخطير بين حق اليهود في الحياة وبين الأحلام المتوسطية المجنونة لأقصى الأجنحة اليمينية في الحركة الصهيونية. والحقيقة ان الرئيس الفرنسي الجديد لم يأتِ في زيارته للمنطقة بصورة حكيم عاقل، شديد الاتزان والتعقل، صارم العدالة والانصاف، متفهم بالقدر نفسه لتطلعات كل أطراف الصراع، بل جاء وبلا أي تحفظ، يطلق العنان لعواطف فتى أوروبي لا يرى في الدنيا من مظالم الا ما ارتكبته العنصرية الأوروبية (وذروتها النازية والفاشية) ضد اليهود، أما كل ما استجد من مظالم بحق المنطقة العربية تنفيذاً للحلول الخاطئة لمشكلة اليهود في أوروبا، فليس له أي وزن يذكر لا في الفكر السياسي لساركوزي، ولا في عواطفه السياسية أو الشخصية.

إن مشكلة أوروبا الآن على ضفتي البحر المتوسط، منحصرة في أمر رئيسي واحد، هو تزايد موجات هجرة الفقراء من الضفة الجنوبية نحو الضفة الشمالية الفتية. والواضح أن حل مشكلة كهذه لا يمكن ان يتم بإطلاق الأحلام اللاواقعية، بل بالمساعدة الجادة والعميقة والحازمة، على استعادة بلاد الضفة الجنوبية لتوازنها الاجتماعي والسياسي، وهو مشروع نهضوي كبير لا يمكن أن يؤسس الا على ايجاد حل نهائي وحقيقي وعادل (وغير شكلي) للصراع العربي - الاسرائيلي، يكون فيه حق شعب فلسطين في وطنه ودولته متساوياً تماماً لحق اليهود في الحياة.

واي محاولة للقفز فوق هذه الحقيقة، لن تكون سوى قفز في فراغ، مهما كان صاحبها حالماً، مثل ساركوزي.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"