خريطة طريق للإصلاح

05:22 صباحا
قراءة 4 دقائق

منذ اندلاع الأزمة السورية مع منتصف مارس/ آذار الماضي، ظلت الأنظار تراوح في التوجه بين دمشق مركز الأزمة، وبين أنقرة عاصمة الدولة الكبيرة المجاورة التي ارتبطت حتى ذلك التاريخ بعلاقات وثيقة مع جارتها العربية . لقد قطعت دمشق شوطاً طويلاً في علاقتها مع الجار التركي يحدوها الأمل في أن توازن بذلك علاقة التحالف القائمة مع طهران التي تثير الجدل على أكثر من نطاق، وأن تُنمي التعاون الاقتصادي: التجاري والسياحي مع هذا البلد، الذي ما فتئ يلعب دوراً متنامياً على الصعيد الإقليمي والدولي، مستنداً إلى تجربة ديمقراطية مزدهرة وإلى مكانة اقتصادية بوّأتها المركز السادس عشر على مستوى العالم، ما جعلها تتقدم على العديد من دول الاتحاد الأوروبي . وقد جاء التباعد التركي مع تل أبيب بعد جريمة اعتراض السفينة مرمرة في عرض البحر المتوسط وقتل تسعة من الناشطين والبحارة الأتراك، والانحسار الكبير في علاقة الطرفين لأول مرة منذ أكثر من نصف قرن، ليعزز من مكانة تركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية في الأوساط العربية، حتى أن الدبلوماسية المصرية إبان الحكم السابق طالما أبدت الحذر من الصعود التركي، بدلاً من الترحيب بهذا الصعود واحتسابه يصب في مصلحة مصر والعرب .

وكان بادياً أن الحكم السوري هو السبّاق في محاولة تعزيز علاقاته بأنقرة، ضمن سياسته التي أرساها الرئيس الراحل حافظ الأسد والمعروفة ب جمع الأوراق الإقليمية، كون تركيا ذات كلمة مسموعة لدى الغرب: الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة كما لدى العالم الإسلامي . غير أن الخطأ الذي وقعت فيه دمشق أنها لم تحاول أبداً الإفادة من نجاح التجربة السياسية التركية، وقبل ذلك فإن دمشق لم تسع أبداً للإفادة من طبيعة النظام اللبناني المرن (على عيوبه)، بل سعت إلى تصدير تجربتها في استيلاء الأمن على السلطة التنفيذية وعلى الفضاء السياسي والقانوني بصورة كاملة .

سعت دمشق في تلك الأثناء إلى بناء محور يضمها مع كل من تركيا وإيران، بديلاً لمحور السعودية مصر . استناداً إلى أنها باتت في مرآتها هي تشكل قوة إقليمية كبيرة، وغير قابلة لتلقي النصح أو النقد من أحد . . فهي من ينصح، وفي أحيان كثيرة من يملي إملاء، وتبادر إلى توجيه النقد للآخرين من غير استعداد لسماع كلمة نقد واحدة، سواء صدرت عن صديق أو طرف محايد، ومع السعي إلى استخدام ورقة الأكراد باعتبار أن الدول الثلاث تشكو من المكون الكردي . وأنه لا بد من التعاون الثلاثي لضبط الوضع في العراق .

وفيما اندلعت أعمال احتجاج واسعة في ليبيا واليمن بعد نجاح ثورتي تونس ومصر، فقد رأت دمشق أنها بمنجاة من أعمال الاحتجاج هذه لكونها لم توقع اتفاقية سلام مع تل أبيب، ورأت أن ذلك يصرف أنظار السوريين عن الحجم المهول لكبت الحريات وللفساد الذي يمتد لأربعة عقود . ومن هنا بدا الارتباك الهائل أمام بدء الاحتجاجات في درعا جنوبي البلد، غير أن الجار التركي لم يفاجأ بمثل ما فوجئ به أهل الحل والربط في عاصمة الأمويين . فسارع المسؤولون الأتراك إلى توجيه النصح للأصدقاء السوريين الذين استمعوا للنصائح على مضض شديد، فلما توالت أعمال القتل وتتالت معها النصائح التركية بالتزام جادة إصلاح جدي، فإن الضيق السوري الرسمي أخذ يعبر عن نفسه في كتابات نشرتها صحف مستقلة مقربة من النظام تحذر فيها من انبعاث عثمانية جديدة يقودها حزب العدالة والتنمية، رغم أن اسطنبول لم تعد إلى اسمها القديم القسطنطينية، ولا تحدث أحد عن خلافة أو مركز خلافة عثمانية، بل بقيت تركيا دولة عصرية توائم بين دستور علماني وبين خصوصيات مجتمع مسلم . كما ظل التوجه للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي على حاله في صدارة الأهداف الاستراتيجية للدولة .

يذكر هنا أن تركيا لا ترتبط بأحزاب وهيئات ومنظمات عربية أهلية، تستخدمها ل تسويق النموذج التركي والتغلغل في المجتمعات العربية، بما يجعل من تهمة الاستعداد لبعث عثمانية جديدة ضرباً من لغو لا طائل منه .

وحدث بعدئذٍ أن تدفق آلاف النازحين السوريين عبر الحدود التركية طلباً للجوء تفادياً للموت المتجول، وهي سابقة لا مثيل لها في تاريخ سوريا وتاريخ المنطقة العربية، أن تنزح حشود من المواطنين هرباً من النظام في بلادها، وقد قوبلت الخطوة التركية باستقبال اللاجئين بحنق شديد في دمشق، فقد كان هناك من يود أن يتم استقبال هؤلاء على الأرض التركية بوابل من الرصاص كما تم توديعهم على حدود بلادهم . كان هناك تخوف أن تسعى أنقرة لإقامة منطقة عازلة داخل الأراضي السورية، وهو ما لم يحدث . . ولا حدث من قريب أو بعيد ما يشي به، وكل ما في الأمر أن اتفاقيات التعاون والصداقة لتي أبرمتها أنقرة مع دمشق تشمل الشعب السوري أو سوريا كلها وليس أجهزة الحكم فيها فحسب .

الآن ومنذ الزيارة الأخيرة الثلاثاء الماضي 9 أغسطس/ آب لجاري التي قام بها الوزير داود أوغلو ولقاء الساعات الست مع الرئيس بشار الأسد، فإن الأنظار تتجه مجدداً وبتركيز إلى أنقرة بعدما تردد على نطاق واسع أن أنقرة اقترحت على أصدقائها خريطة طريق للخروج من حمامات الدم إلى حمام تركي نظيف . وبالمناسبة ليس في ما يرشح من تصريحات لمسؤولين سوريين ما يفيد أن تركيا تحاول استغلال الأزمة كي يكون لها موطئ قدم في هذا البلد . وإذا كانت هذه الجهود في عرف البعض بمنزلة ضغوط فهي في نهاية المطاف تسعى إلى أن توفر مَخرجاً للنظام . دور كهذا كان ينبغي أن تؤديه الجامعة العربية التي اكتفت أمانتها العامة بالاتصال مع الدبلوماسية التركية للوقوف على ما جرى من مباحثات في قصر المهاجرين في دمشق .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"