خمسة جدران عربية

02:33 صباحا
قراءة دقيقتين
يحيى زكي

مرت ثلاثون عاماً على هدم جدار برلين، وفي أعقاب زوال ذلك الحد الفاصل بين الشرق والغرب، صدعنا كثيرون بكتب وندوات ومؤتمرات عن نشأة عصر جديد تزول فيه الحدود بين البشر، حيث بإمكان وفق دعاوى العولمة كل دول العالم أن تحقق التنمية على النمط الرأسمالي الغربي، ليس هذا فحسب؛ ولكن رافقت هذه الأحاديث تنظيرات فكرية وثقافية عن مجتمع عالمي نتنقل فيه بحرية ويسوده الوئام والتعاون.
ومن هنا يكتسب سؤال: هل يخلو العالم الآن من الجدران؟ أهميته ووجاهته، فالملاحظ بعد هذه العقود الثلاثة أن الحواجز تكثر وتعلو بين البشر في كل مكان، وأن الحدود تُغلق في أكثر بلدان العالم تقدماً في وجه المهاجرين واللاجئين، وأن الشك في البشر بسبب الهوية خبر يومي نطالعه كل صباح، وأن الأصوات والأحزاب الفاشية والرافضة للأجانب في الغرب يرتفع ضجيجها عاماً تلو آخر؛ بل إن اختراع حضارات بأكملها عصية على التحديث والتقدم، هو ابتكار العولمة بامتياز. ففي ذروة الصراع بين القوى الدولية المختلفة في أي مرحلة تاريخية سابقة لم يحدث أن وُضعت حضارة دائماً في مرمى الارتياب المتواصل، كما حدث مع الحضارة العربية الإسلامية.
ولكن هذا لا يُعفينا من نقد الذات، فالجدران أيضاً تحيط بالإنسان العربي في كل مكان، ولا نقصد هنا الحدود بين مختلف بلداننا العربية، فبقليل من التأمل تبدو هذه المشكلة هينة، مقارنة بأزمة أكثر عمقاً يعانيها العرب، لقد بحث «مفكرونا» دائماً عن مكمن الخلل في حال تراجعنا المتواصل، وهنا شيّد معظمهم جدارين أشد صلابة وقوة وارتفاعاً من جدار برلين، ونعني بهما الاستعمار والاستبداد، ولكن ما لم يحللوه باستفاضة هو أن هناك أكثر من أمة عانت الجدارين معاً، ولكن هذه الأمم استطاعت أن تحطمهما وتسير إلى الأمام.
فبكل المعايير نحن لم نعانِ مثل الصين أو اليابان، فلم تعرف الحضارة العربية على الرغم من كل ما يقال عن الاستبداد، تأليهاً للحاكم مثل اليابان، ولم تتعرض لإذلال أو تشهد مجاعات مات فيها الملايين كما حدث للصين خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، ونتيجة لذلك بنى بعض مفكرينا لحل أحجية «أين الخلل؟» جداراً لم يسبق له مثيل في التاريخ، فالخطأ في إنسان «عربي متخلف» بطبعه.
ولا يمكن لأي متابع إلا أن يشعر بالأسى أمام هذه الصورة، حيث بإمكانه ملاحظة خمسة جدران تحيط بنا. جدار الهجرة، فالعربي الذي يرحل من وطنه يواجه بأبواب الغرب المغلقة في وجهه أو المشككة فيه، أما العربي الذي يقبع في معظم بلداننا فمحاط بجدران: الاستبداد والتطرف، ويعاني من آثار الاستعمار، وهو أيضاً متهم من «مفكريه» بعاهة التخلف.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"