رحم الله عز الدين إبراهيم

04:54 صباحا
قراءة 5 دقائق

توطدت علاقتي به قبل عشرين سنة، ثم لم أفتح عيني منذ ذلك اليوم على رجل مثله، ولا أريد أن أفتحها على غيره، لظني أنني لن أجد مثيلاً له في خلقه الرفيع وفي أدبه الجم ونظرته للناس بعين الرضا والمحبة والعدل.

إنني لم أجد عالماً تنطبق مجالات دراسته على حياته العلمية والعملية وممارساته اليومية مثل الأستاذ الدكتور عز الدين إبراهيم، فالفقيد رحمه الله الذي ولد عام ،1928 حصل على الليسانس في الأدب، وعلى دبلوم التربية وعلم النفس من مصر، ثم على دكتوراه الفلسفة من لندن، ومنحته جامعة ماليزيا الدكتوراه الفخرية في الاقتصاد، ومنحته جامعة ويلز في بريطانيا دكتوراه فخرية في الآداب لدوره مع مؤسسات التعليم العالي.

لو قارنت بين هذه المؤهلات، وبين عمل الفقيد منذ عام 1968 - 1969 عندما طلبه الشيخ زايد بن سلطان، رحمه الله، من قطر، ليكون مستشاراً تربوياً له، والى أن احتضنته أول وزارة للتربية والتعليم في أبوظبي عام ،1970 حيث إنه عمل خبيراً مع محمد خليفة الكندي وزير التربية والتعليم آنذاك، وشارك في وضع الاستراتيجية الأولى للمناهج.

ثم أسهم في تنفيذ المجمع الثقافي في أبوظبي، ثم إدارته لجامعة الإمارات، وإسهامه في تنفيذ مؤسسة زايد للأعمال الخيرية التي كان على اتصال بالمسؤولين فيها حتى قبل أيام من وفاته، كما أخبرني الأخ سالم عبيد الظاهري مدير المؤسسة، يوصيهم بالاهتمام بكذا وكذا من باب الأمانة، وإلى أن أصبح مستشاراً ثقافياً للشيخ زايد رحمه الله، وفي الوقت نفسه مستشاراً للاتحاد النسائي العام، ثم مستشاراً ثقافياً في وزارة شؤون الرئاسة الى ساعة الوفاة.

بالإضافة الى ذلك كله، كان الفقيد محاضراً نشطاً ومحاوراً بارزاً في مجال حوار الحضارات والأديان، ويشرف على كراسي الدراسات الإسلامية التي أنشأها الشيخ زايد في أوروبا وآسيا.

لو نظرت الى هذه المجالات لوجدت أن الدكتور عز الدين إبراهيم كان يمثلها أحسن تمثيل، فهو كان اللغوي المتمكن، وكان الفقيه المتواضع، وكان الأديب الظريف، وكان التربوي البارع، وكان عالم الاقتصاد الذي يذكر اسمه في كل مشروع خيري أنشأه الشيخ زايد وأعطى ثماره في الداخل والخارج.

أجل ولي شرف التتلمذ على يده عبر عشرين سنة مضت، فكم تعلمت منه حسن الصمت والاستماع الى الآخرين، وكم تعلمت منه التواضع مع الأكبر والأصغر، فلا أذكر أنني التقيت به مرة إلا وأخجلني بتواضعه، لأنه لم يكن يلقاني كمعلم ومرشد، بل كأخ وزميل، وكان يحرجني كثيراً عندما كان يثني عليّ أمام علماء كبار.

كان يتابع مقالاتي الفقهية والأدبية سواء داخل الدولة أو خارجها، وكثيراً ما كان يتصل بي في الحال ليقول: لقد قرأت مقالك الفلاني وتعلمت منه فقه الأدباء وأدب الفقهاء، وأنت يا دكتور عارف تستحق كذا وكذا، ثم يقترح عليّ عناوين جديدة لأتناولها في ما بعد.

نعم.. كان يعاملني هذه المعاملة، وهو في غنى عني وعن علمي، لأنه الأكبر والأعلم والأقدر، لكنه رحمه الله كان هكذا يشجعني على الاستمرار في نشر الخير بين الناس، لأنه كان غني النفس كبير الهمة رفيع الذوق طاهر القلب محباً للخير.

ورغم أنه كان واسع الاطلاع عميق الفهم متوقد الذكاء سريع البديهة، يجب أن يؤتى اليه لجلالة مكانته، إلا أنه إذا طلب منه محاضرة في أي مكان لبى الدعوة وألقاها بكل تواضع ومن غير منّ وأذى.

لقد شارك في الحوار الحضاري بين الشرق والغرب بثقافته الواسعة، وبروحه المرحة التي تحببه الى كل إنسان، وبخلقه الدمث الذي يتسع لكل الناس، وبرحابة صدره وسعة أفقه وتمكنه من اللغة الانجليزية التي مكنته من الجلوس مع كل المستويات.

ورغم أنه ألفَ مجموعة من الكتب والبحوث القيمة تبقى في ذاكرة الناس ومكتباتهم، إلا أنه كان ينتظر ولادة الموسوعة المسماة بمعلمة القواعد الفقهية، وهي مشروع ضخم شارك فيه الفقيد بالتعاون مع مجمع الفقه الإسلامي في جدة، ولا يزال قيد الإنجاز.

إن الحديث عن الدكتور عزالدين ابراهيم طويل ولا ينتهي، لأنه كان كالشجر المثمر، وكان الطيب الذكر في كل مكان بذر فيه الشيخ زايد رحمه الله بذرة الخير، وسيبقى كذلك إن شاء الله.

نعم، إن الدكتور عز الدين إبراهيم تشرفت كتبي بتقديمه لها أكثر من مرة: مرة مع كتابي الحياة كما أراها، ومرة مع كتابي جواهر العرب، ومرة مع كتابي تاريخ التعليم في أبوظبي.

وبالمناسبة فصلت القول عن دور الفقيد في أبوظبي في ذلك الكتاب، ولا سيما قبل الاتحاد فليرجع إليه القراء.

فهو لم يكن إنساناً عادياً بل كان وعاء محمدياً حاملاً للقيم المحمدية، أخذ بسماحة الإسلام ويسره، ولذلك كان ملء السمع وملء البصر وملء الفؤاد أينما حل وارتحل، وإنني إذا كنت معجباً به فذلك لأنه كان ينبوع الفضائل وأنا أعشق الفضائل.

ولا أنسى أن أقول: من شدة محبة الفقيد لي اقترح علي رحمه الله أكثر من مرة أن أعد كتاباً في الحماسة على غرار حماسة أبي تمام، لكن أجمع فيه من مكارم الأخلاق ما يخص الأطفال فقط، فوعدته ولم أحقق له ما تمنى حتى الآن، وكان ينتظر أن يكتب له بنفسه تقديماً مناسباً.

وبما أنه كان رجلاً اجتماعياً يتواصل مع الناس في مكاتبهم ومجالسهم وأفراحهم وأحزانهم، فإنه كان ينتظر مني الانتهاء من بناء منزلي الجديد، ليزورني زيارة خاصة مع جمع من العلماء، إلا أن الأجل لم يمهله، وكان آخر لقائي به قبل رمضان العام المنصرم 1430 عندما كان يعالج عينه.

وكان آخر اتصال بيني وبينه وهو في الإمارات، عندما اتصلت به قبل سفره للعلاج قبل أشهر، ويومئذ ردّ علي بأنه يحس بأنه مريض والأطباء لم يشخصوا مرضه حتى الآن، إلا أنه غير مستسلم للمرض، بدليل أنه عندما كان يكلمني كان في السوق، وكان عائداً لتوه من المكتب.

ثم سافر بعده إلى أمريكا، وكان يتصل بي من هناك وأتصل به، وفي البدايات كان يطمئنني ويقول: أستجيب للعلاج والحمد لله لكني أحتاج الى فترة طويلة.

وفي الأسابيع الأخيرة كان يقول لي: أنا بخير وأحتاج إلى دعواتكم الصالحة، وكنت أطمئنه في حين بأنني لم أكن في نفسي مطمئناً من غدر هذا المرض الخبيث.

وكنت أتابع حالته من خلال أصدقائه في أبوظبي أيضاً، أمثال الدكتور عبدالرحمن مخلوف المهندس الذي رافق الشيخ زايد في تخطيط مدينة أبوظبي، وأمثال سالم عبيد الظاهري مدير مؤسسة زايد للأعمال الخيرية الذي أقر لي بفضل الدكتور عز الدين في إنشاء هذه المؤسسة.

لكن فاجأني الأخ سالم الظاهري عندما اتصل بي صباح السبت الموافق 30/1/2010 ليحمل إليّ خبر وفاة الفقيد في لندن التي قدم إليها من أمريكا وهو في غيبوبة.

نعم، هكذا فقد العالم بشرقه وغربه وشماله وجنوبه، عالماً معتدلاً بفكره وآرائه، وأميناً بعلمه وحواراته، ونشيطاً بجهوده وجولاته الهادئة والهادفة، وبفقده فقدنا عالماً (بفتح اللام).

وفقدت أنا شخصياً أباً روحياً ومعلماً ومرشداً كنت أتتلمذ على يده صباح مساء، فاليوم إذ يفارقني بعد 82 عاماً من عمره ليس لي إلا أن أقول:

ولو شئت أن أبكي دماً لبكيته

عليه ولكن ساحة الصبر أوسع

ثم أقول لأنجاله الدكتور عبدالرحمن والدكتورة هدى والدكتورة دعاء وصديقه الصادق، لستم أحق مني بالبكاء على الفقيد، فليتصبر كل منا، فلله ما أعطى وله ما أخذ، ولنقل رحم الله فقيدنا وأسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

مؤلف وشاعر وخطيب. صاحب كلمات النشيد الوطني الإماراتي، ومن الأعضاء المؤسسين لجائزة دبي للقرآن الكريم. شارك في تأليف كتب التربية الإسلامية لصفوف المرحلتين الابتدائية والإعدادية. يمتلك أكثر من 75 مؤلفا، فضلا عن كتابة 9 مسرحيات وأوبريتات وطنية واجتماعية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"