روح أكتوبر وأعداء اليوم

03:01 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود حسونة

نصر أكتوبر تحقق على عدو واضح الملامح، نعرفه ونراقبه ونناوره، ويناورنا، وندرك أهدافه ومطامعه، أما اليوم فإننا نواجه أعداء بلا ملامح، بعضهم من أبناء جلدتنا، يأكلون طعامنا ويشاركوننا في الوطن
في تاريخنا صفحات يجب أن لا نترك غبار الزمن يطمس معالمها، ويسقطها من ذاكرة الكبار، ولا يترك لها متسعاً في ذاكرة الأجيال الجديدة. ولعل حرب أكتوبر ١٩٧٣ من أهم هذه الصفحات لما فيها من بطولات سطرتها الشخصية العربية وتؤكد أن هذه الأمة لا تكسرها هزيمة، ولا تنال من كرامتها ومجدها نكسة حدثت نتيجة ظروف لا مجال للحديث عنها الآن. ما حققه الجيش المصري عام ١٩٧٣، شغل الخبراء العسكريين حول العالم وغيّر من العقائد الراسخة حول فنون القتال واستراتيجيات الحروب، وأضاف للكليات الحربية نظريات وبدّل ما فيها من مناهج. ولعل الاحتفال سنوياً بذكرى هذه الحرب، ليس الهدف منه التغني بالمنجز ورفع الأعلام، وتعظيم دور من شاركوا فيها فقط ، ولكن استدعاء أحداثها وظروفها ودراسة عوامل النصر، وكيفية تحقيق إنجازات أخرى في حياتنا المدنية والعسكرية، وهو ما يستلزم المقارنة بين العدو الذي كنّا نواجهه حينئذ، والعدو (أو بشكل أدق الأعداء) الذين نواجههم اليوم، ولن نتخلص منهم سوى بتوحدنا والتفافنا حول بعضنا وحول قواتنا المسلحة وحماة أوطاننا لتحقيق انتصارات، تضمن الحفاظ على أمن أوطاننا وأمن وأمان مستقبل أولادنا وأحفادنا.
نصر أكتوبر تحقق على عدو واضح الملامح، نعرفه ونراقبه ونناوره، ويناورنا، وندرك أهدافه ومطامعه، أما اليوم فإننا نواجه أعداء بلا ملامح، بعضهم من أبناء جلدتنا، يعيشون بيننا، يأكلون طعامنا ويشاركوننا في الوطن، وأحياناً يضحكون في وجوهنا وهم يتآمرون علينا وعلى مكتسباتنا في ذات الوقت.
هم ورم خبيث يسعى للانتشار في الجسد العربي هدفه نشر الخراب والدمار والفوضى وإثارة الفتنة بيننا. في أكتوبر ١٩٧٣ كانت الخطة، استعادة الأرض التي احتلها العدو عام ١٩٦٧، وهو ما يستلزم عبور قناة السويس وتدمير التحصينات المقامة لإعاقة تقدم قواتنا إلى الضفة الأخرى وتحرير سيناء، وتحقق الهدف وعبرنا وحطمنا خط بارليف والساتر الترابي. أهداف، راقبناها واكتشفنا معالمها، ودرسنا كيفية تدميرها والتقدم إلى قلب سيناء. أعداء اليوم بعضهم يختبئ تحت الأرض، والبعض يعيش بيننا في قلب المدينة، ويزرع ويحصد معنا في القرية، وهو يخفي حقيقته. يمارس التضليل والكذب ليستقطب اليائسين والمحبطين بسبب فشله في تحقيق الذات، يقدم لهم وعوداً زائفة بالجنة والحور العين، ويعد بالغنائم ويقسم الأرزاق بعد أن جعل من نفسه وكيلاً لله على الأرض. عدو يفوق إجرامه إجرام العصابات والمافيا، في تنفيذ عملياته، فهو لص أوطان وصانع خراب.
مواجهة مثل هذا العدو تستلزم توحد شعب يؤمن بجيشه وقيادته، ويدرك أنه يستهدف الوطن وليس فقط النظام، أنا وأنت وهي وهو هدف له، وحياتنا ليست لها أي قيمة عنده، ولذا ينبغي أن نعتبر أنفسنا جميعاً جنوداً لنا دورنا في التصدي له، سواء بتوعية من حولنا أو بالإبلاغ عن كل من نعرف أو حتى نشتبه في أنه لا يريد الخير لأوطاننا، لأن استقرارنا وصلاح حياتنا لن يتحقق إلا ببتر هذا الورم، واحتمال بعض الآلام حتى يشفى الجسد من آثار البتر. أعداء اليوم لا نعرف لهم عدداً، لديهم أقنعة مختلفة، ولكل منهم دوره، في تخريب أوطاننا وتعميم الفوضى. يتمثلون في قنوات فضائية تحرض وتشحن، وفي صفحات إلكترونية تنشر الشائعات وتثير البلبلة، وفي دول وحكومات تمول وتوجه، وفي أجهزة مخابرات تراقب وتخطط وتحدد الأهداف وساعات الصفر، وفِي جماعات تخرب العقول وتنشر الفكر المضلل وتحول الحرام حلالاً والعكس، وفِي مجموعات مسلحة تقتل وتبيد البشر وتدمر الحجر، وقطيع من الغوغاء يساق ويردد ما يقال له من دون أي وعي. في حرب أكتوبر توحدت الأمة العربية بكاملها في وجه العدو، ومعظم دولنا شاركت بالجنود والعتاد والمال لأجل تحقيق الهدف الذي آمن به الجميع وبذل الغالي والنفيس لأجل كرامة العرب، أما اليوم فبعض دولنا تدعم أعداءنا بكل الأدوات لكي ينالوا من دولة جارة أو شقيقة. انتصار أكتوبر كان لا بد أن يتحقق لأن كل الظروف كانت مواتية، أمة موحدة وشعوب مؤمنة بقضيتها وبقواتها المسلحة وبقيادتها، أما اليوم، فالمهمة صعبة ولكنها ليست مستحيلة، ولا تستلزم منا سوى استعادة روح أكتوبر، وتجاوز انقساماتنا، ونبذ عناصر التطرّف والإرهاب من بيننا.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"