شعب لبنان يزعزع الطائفية

05:47 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود حسونة

لبنان في الذاكرة، لوحة مرسومة بإبداع، يتجسد فيه الجمال بكل ألوانه؛ جمال الجغرافيا والديموغرافيا والروح، يجمع بين طبيعة متميزة تسمح بأن يكون الجبل الأخضر منصة للإطلال على البحر من معظم المناطق، والمناطق التي لا ترى البحر ترى ودياناً ليست أقل جمالا.. الجمال يلاحقك أينما تحركت على جغرافيا لبنان.
قبل أن تطأ قدماك أرض مطار الشهيد رفيق الحريري تطل من نافذة الطائرة لتجد نفسك معلقاً بين أمواج البحر وسحب بلون القطن، وبعد أن تهبط يرافقك البحر أياً كان مقصدك، وإذا قررت الصعود إلى الجبل، تستمتع بالأشكال التي رسمتها الطبيعة وحبا الله بها هذه البقعة.
«الأخضر» حولته ممارسات ساسة وزعماء الطوائف إلى لون باهت خلال السنوات الأخيرة؛ أكوام من النفايات تتكدس، تشويه للساحل ببنايات فرضها أصحاب القرار، وفساد نال من جمال البحر والوادي والجبل، استولى كل زعيم على منطقة ونصّب نفسه ملكاً عليها، متحكماً في أحوال البشر، مقرراً مصير الحجر، والنتيجة أن لبنان لم يعد لبنان، انصرف عنه السياح وهرب خيرة أبنائه وبناته إلى الخارج، ومن كان قدره البقاء عاش يئن من مشاكل وهموم لا حصر لها، بعد أن كرس الساسة خطاب الطائفية والكراهية والترهيب من الآخر.
استجاب قطاع من اللبنانيين لخطاب ملوك الطوائف، وبعد أن كانت التعددية أهم ما يميز لبنان أصبحت المرض الذي يكاد أن يفتك به، بعد أن تحول إلى عدة شعوب متعددة الولاءات والانتماءات تعيش على بقعة أرض صغيرة، وفقدت كل طائفة الثقة في الأخرى؛ بل انقسمت ولاءات أبناء الطائفة الواحدة إلى أكثر من زعيم، يلتفون حوله بعد أن أوهمهم بأنه وحده لهم الحامي والضامن والمخلص.
خداع الشعوب يثمر لبعض الوقت، ولكنه لا يدوم، وهذا ما أكده الشعب اللبناني خلال التظاهرات التي أشعلت شرارتها نوايا فرض ضريبة جديدة عليه على استخدامه لتطبيق «الواتس أب»، هذه الضريبة التي تجاوز اللبنانيون في احتجاجهم عليها الطائفية وفضحوا أكاذيب من خدعوهم وسعوا للتفريق بينهم بخطاب مقيت كاد أن يفتت الدولة، وهو الذي نقل لبنان من القمة بين الدول الجاذبة، إلى القاع فصار دولة طاردة.
تظاهرات لبنان، سواء نجحت في تحقيق مطالبها أم قُمعت، تكتب صفحة جديدة في تاريخها، بعد أن كسر اللبنانيون حاجز الخوف و«التأليه» لزعماء الطوائف الذين اقتسموا الكعكة بينهم، واستولوا على المناصب والمال والأرض والبشر، وتركوا للشعب خيبة الأمل والمعاناة والوجع؛ لذا كانت الصرخة مدوية حتى يسمعها العالم؛ صرخة خرجت من كل اللبنانيين ومن كل المناطق في وقت واحد، ضد الرئاسات الثلاث، وضد الوزراء والنواب، وضد زعماء الطوائف والتحزب الأعمى، وضد ممارسة لعبة السياسة تحت غطاء الدين والطائفة والمذهب.
ولأن الألم واحد والمعاناة مشتركة، كانت الصرخة واحدة «كلن يعني كلن» بلا تصنيف ولا تفضيل لهذا الزعيم أو ذاك المسؤول، هذه الصرخة وغيرها من الشعارات والمطالب ترددت في ساحات التظاهر من الجنوب إلى الشمال، ومن الساحل إلى الجبل بصوت واحد، ووقت واحد، وبإرادة وعزيمة واحدة، وصرخ بها «الختيار» والشاب والطفل والصبي والفتاة والرجل والمرأة.
اللبنانيون يعودون اليوم ليؤكدوا أنهم شعب يعشق الحياة، بعد أن احتج على وجعه ومعاناته بالفرح والغناء والرقص، ولعل مدينة طرابلس كانت تتعمد أن ترتدي تظاهراتها ثوب الفرح والحياة، بعد أن رسمت لها الطبقة السياسية صورة مدينة الموت والقتل والتطرف والعنف.
ما فعله الشعب اللبناني خلال الأيام الماضية غير مسبوق، وهي المرة الأولى التي يستعيد فيها هويته المفقودة لصالح الهويات الطائفية، منذ اندلاع الحرب الأهلية عام 1975 والتي تبعها وضع دستور كرّس الطائفية، ووزع المغانم السياسية في حصص محددة على زعماء الطوائف وعائلات الإقطاع السياسي.
وإذا كان التظاهر حقاً يكفله القانون، ومارسه اللبنانيون من قبل، إلا أنه يشهد لأول مرة تمرد كل الطوائف على قادتها وأحزابها، ومن بينها «حزب الله» وحركة أمل.
سواء نجحت التظاهرات في تحقيق أهدافها أم لا، فإنها زعزعت الطائفية وهزت عروش ميليشيات لم تهتز من قبل، ونتمنى أن تزيح وهم الطائفية عن كل لبناني حتى يعود لبنان «أخضر حلو» كما عبر عنه وديع الصافي، وملهماً للشعراء وجامعاً لكل العرب كما عهدناه من قبل.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"