ضياع الأرض.. وأرض الضياع

04:32 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسن العديني

لم تكن أحوال العالم العربي في أي وقت أسوأ مما هي عليه الآن. لنتأمل بكثير من الصبر ما يجري من حولنا، الحروب الأهلية طاغية في المشهد العام من دون أن تخفي التشوهات والندوب العميقة في جسد وروح هذا العالم الجريح، بما يعانيه من الاستبداد، والظلم الاجتماعي، واحتقار المرأة، وضياع الطفولة، وانحطاط التعليم، والأوبئة والأمراض، وباختصار هوان الإنسان بكل المعنى البغيض للكلمة.
اللافت أننا حين نتحدث عن الحروب الأهلية تقفز إلى أدهاننا الصورة في سوريا وليبيا واليمن .
عند هذا الحد يبدو الحرص كبيراً على الاقتصاد في التشاؤم بمحاولة نسيان أن الصومال لم يبرأ من محنته تماماً، وأن لبنان لم يزل محاصراً بالنار. ثم إننا نتجنب الاعتراف بأن مصر تخسر في دوامة الإرهاب من دماء أبنائها، ومن مواردها ما يضاهي، أو يفوق ما ينفقه أي بلد يعيش تحت وطأة الحرب الأهلية. وداء الإرهاب لا يستثني أي بلد عربي إلا بمقدار ما تنجح الحرب الوقائية في تفادي الجرائم، وتكاد الحقائق لو سمح لها بأن تنطق فتقول إن الدم المصان أغزر كثيراً من الدم المسفوح، ولكن حفظه كلف أعباء باهظة من الموارد الوطنية خصمت من حساب التنمية البشرية والاجتماعية، والغريب المحزن أن الموارد المهدورة عربية في الجانبين، هناك حيث يمول الإرهاب، وهنا حيث المجتمعات تدافع عن نفسها.
غير أن المأساوي أننا في ضوضاء الإرهاب ومخاطره والحرب ضده كدنا ننسى ما كنا نردد حتى وقت قريب أنها قضيتنا المركزية، ولم نعد نعطيها الاهتمام الذي تستحقه، رغم إدراكنا أن هدف ابتلاع فلسطين يختبئ وراء هذا المشهد الفاجع وأن أصابع الحركة الصهيونية مرئية في حرب يشنها علينا رجال ونساء من أبناء جلدتنا، وبواسطة هذه الحرب حققت «إسرائيل» أكثر مما استطاعت بحروبها المباشرة العلنية والسرية، حيث استخدمت بدهاء الإسلام السياسي، حتى امكن لها أن تدفع بفلسطين إلى حافة الاحتضار.
ولا يغرب عن البال أن الحركات الإسلامية نشيطة في الحرب على «إسرائيل» بالكلام، وحتى بالمناوشة، في حين تخوض حروبها الحقيقة ضد بلدانها، وعلى سبيل المثال فقد ثبت باعتراف قادة في «الإخوان المسلمين» كتبوا مذكراتهم أن مشاركتهم في حرب فلسطين كانت كذبة كبرى، وأنهم أرادوا من إرسال المتطوعين الحصول على الصلاح والتدريب فأمروا شبابهم بالبقاء داخل المعسكر لا يغادرونه بحجة وجود مؤامرة لتصفية المجاهدين .
كما لم يكن شارون غافلاً عما يمكن أن تجلبه حماس من المتاعب لمصر، وفي الأحوال كلها فإن جسر الشبهات بين حماس و»إسرائيل» تبدى تماماً بعد انقشاع ضباب بددته أضواء مشاريع عدة لاختزال فلسطين في القطاع المكتظ، ولزمت المراوغة أن تحاول الإدارة الأمريكية توسيعه بشراء جزء من سيناء، تلك الصفقة التي رفضتها مصر في عهد مبارك، وكادت تتم إثناء حكم ا»لإخوان».
في هذا المناخ الكئيب نقلت السفارة الأمريكية إلى القدس، وفيه، وافق الكنيست «الإسرائيلي» على قانون يهودية الدولة حيث تصبح فلسطين وطناً لكل اليهود في العالم، وينزل أهلها الحقيقيون إلى أسفل درجة المواطنة، وأدنى مستويات العيش حتى تضيق بهم الأرض فلا يجدون سبيلاً غير أن يهيموا في الدنيا طلباً للكفاف، وفي المناخ نفسه قطعت واشنطن مساهمتها في تمويل « الأونروا «، وأخذ الحديث يتردد عن أن حق اللجوء غير قابل للتوريث، وهي مسألة تضع الفلسطينيين قانونياً خارج أي أرض.
ويثور السؤال عن أصل العلة في هذا كله، ولا تصح الإجابة بالتذرع بالمؤامرة، رغم وجودها، لأن الداء الحقيقي هو في إقامتنا الطويلة في الماضي، وعجزنا عن تجديد العقل المتيبس، وإعادة بناء الجدار المتصدع؛ فما دمنا نجلس على ركام الجهل لابد أن تتكاثر جماعات العنف إلى أن نصحو بفعلها، وليس بفعل غيرها على واقع أن أرضاً ضاعت هناك في فلسطين، وعلى أرض ضياع نورثها هنا لأجيالنا في الفضاء العربي الكبير.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"