عشرون عاماًعلى مجزرة سريبرينيتشا

03:30 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.غسان العزي

منذ عشرين عاماً، في ١١ يوليو/تموز ١٩٩٥، شنت قوات صربية بقيادة الجنرال الشوفيني المتعصب راتكو ملاديتش هجوماً على سريبرينيتشا البوسنية، فقتلت أكثر من ثمانية آلاف من المدنيين العزل. عملية الإبادة هذه، كما سمتها محكمة الجزاء الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة، وقعت طوال أيام ثلاثة كاملة في قلب أوروبا وفي «المنطقة الآمنة» القابعة تحت حماية الأمم المتحدة.
جريمة الإبادة هذه وقعت بعد عام واحد على جريمة مماثلة حصلت في رواندا، على يد الهوتسيين، وذهب ضحيتها ثمانمئة ألف من التوتسيين، وهذه المرة أيضاً على مقربة من قوات عسكرية فرنسية وأخرى تابعة للأمم المتحدة التي لم تحرك ساكناً.
المسؤولون الفرنسيون الكبار كانوا يدعمون القوميين الصرب قبل انتخاب جاك شيراك رئيساً للجمهورية في مايو/أيار ١٩٩٥، وتعاونوا مع الهوتسيين قبل وخلال وبعد المجزرة التي ارتكبها هؤلاء بحق التوتسيين في العام ١٩٩٤. الولايات المتحدة تركت المجازر ترتكب في رواندا ثم في يوغوسلافيا السابقة من دون أن تفعل شيئاً يذكر، كذلك الأمم المتحدة التي هربت قواتها من رواندا في اللحظات الأولى لبداية المجازر، وبعدها بعام واحد في ساراييفو التي تركتها تتعرض للحصار ثم للتطهير العرقي من دون أن تحرك ساكناً. أكثر من ذلك فالكتيبة الهولندية التابعة للقبعات الزرق الأممية صدت البوسنيين الهاربين من مجازر سريبرينيتشا ومنعتهم من الاحتماء في مخيماتها وراحت تتفرج على كتائب الموت الصربية وهي تفصل النساء عن الشبان والرجال البوسنيين في المشهد الأخير من عملية الإعدام.
وكان التاميل قد تعرضوا لمجازر وإبادة في سيريلانكا، واليوم هناك مئات الآلاف من المدنيين السوريين والعراقيين يتعرضون للمجازر على يد المنظمات الإرهابية، و«بوكو حرام» ترتكب المجازر في نيجيريا و«داعش» يقتل ويذبح ويمارس التطهير الديني والعرقي والطائفي وكل أنواع القتل والإجرام في أكثر من مكان.
مجازر تمهد لأخرى وتطهير عرقي يمهد لتطهير ديني، وهكذا من دون أن يتعلم إنسان القرن الحادي والعشرين شيئاً من دروس التاريخ الدامي.
الدعم الذي استفاد منه القوميون الصرب منذ عشرين عاماً في أوروبا كان بسبب الاعتقاد بأنهم القلعة الأخيرة للغرب المسيحي في مواجهة الهجوم الإسلامي الذي كانت البوسنة تمثل طلائعه المتقدمة. والفكرة التي راجت حول الحرب الأهلية اليوغوسلافية بأنها «حرب أهلية أوروبية» يعود اليوم للترويج لها تياران سياسيان متناقضان في الظاهر لكن متحالفان موضوعياً: اليمين القومي المتطرف في أوروبا الذي يتبنى خطاباً عنصرياً معادياً للإسلام والمسلمين، والجماعات الإسلامية المتطرفة التي ترفع شعارات عنصرية ضد المرأة والديمقراطية والتفكير الحر المنفتح.
بعد عشرين عاماً على مجازر سريبرينيتشا، وهي الأكبر في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، ما تزال البوسنة تعيش في عزلة. فاتفاقات دايتون (الموقعة في نهاية العام ١٩٩٥) تخنقها وتتعامل معها على أنها مجرد مجموعة إثنية طائفية. ويطمح الشباب البوسني إلى دستور جديد عصري غير إثني وغير طائفي بديلاً عن الدستور الإثني المنبثق عن هذه الاتفاقات. وقد دخلت كرواتيا في الاتحاد الأوروبي وتستعد صربيا إلى مثل هذا الدخول ربما في السنوات القليلة المقبلة، لكن لا أحد يتكلم عن إمكانية انضمام البوسنة إلى هذا الاتحاد، والسبب معروف للقاصي والداني.
واليوم تحسنت العلاقات بين بلغراد وساراييفو، لكن التوتر ما يزال قائماً مع سريبرينيتشا، فالقادة الصرب يرفضون تعبير «إبادة» الذي تستخدمه محكمة الجزاء وبعض الدول الكبرى. وقد أتاحت نهاية الصراع اليوغوسلافي إقامة هذه المحكمة الدولية الخاصة ومهمتها الأساسية ملاحقة ومحاكمة المسؤولين عن الخرق الفاضح للقانون الدولي في هذا الصراع. وكل الأشخاص الذين وجهت إليهم المحكمة التهم باتوا خلف القضبان، وهناك محاكمات تجري حالياً بحقهم، منها محاكمة الجنرال راتكو ملاديتش المسؤول المباشر عن مجزرة سريبرينيتشا.
في العام ٢٠٠٣ تم بناء نصب تذكاري لشهداء المجزرة وعددهم ٨٣٧٢ (وهناك ألف شخص ما يزالون في عداد المفقودين) بعد أن اعترفت صربيا بمسؤوليتها عنها. وفي العام ٢٠١٠ استنكر البرلمان الصربي هذه المجزرة لكنه رفض استخدام مصطلح «إبادة»، وفي السنة نفسها زار الرئيس الصربي بوريس طاديتش النصب التذكاري. وفي ١١ يوليو/تموز الماضي شهد هذا النصب حشداً من الزوار منهم الرئيس الأمريكي الأسبق كلينتون وزعماء كرواتيا وسلوفينيا وصربيا (رئيس الوزراء الصربي اضطر للمغادرة تحت وابل من الحجارة قذفه بها محتجون على وجوده) والجبل الأسود.
في يونيو/حزيران الماضي تقدمت بريطانيا بمشروع قرار في مجلس الأمن يطلب الاعتراف رسمياً بأنه في يوليو/تموز ١٩٩٥ ارتكبت القوات العسكرية الصربية جريمة إبادة بحق سكان البوسنة». أكثر من ذلك يطلب المشروع البريطاني تحويل تاريخ ١١ يوليو/تموز إلى «يوم عالمي لتذكّر ضحايا الإبادة في سريبرينيتشا». فوراً تحركت بلغراد لدى أعضاء مجلس الأمن الآخرين لعدم تمرير مشروع القرار. وقامت حليفتها موسكو باستخدام حق النقض-الفيتو ضده قبل أن تتقدم بمشروع قرار مضاد يتحدث عن «كل الجرائم المرتكبة في يوغوسلافيا السابقة» ويشدد على «سيادة صربيا» بغية عدم استخدام تعبير «إبادة». والعلاقة بين موسكو وبلغراد قديمة وما تزال تتطور إلى اليوم، فالشركات الروسية في صربيا، وهي كثيرة، تحظى بامتيازات خاصة، ثم إن موسكو تدعم بلغراد في الملف الكوسوفي.
طالما أن مفهوم العدالة سيبقى خاضعاً للاعتبارات السياسية ومنطوقات المصالح فعلينا انتظار المزيد من الحروب والمجازر، هنا وهناك في هذا العالم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"