عصر «ما بعد الحقيقة»

02:10 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو
في معرض توصيفه لواقع البيئة الدولية الراهنة، تبنى تقرير مؤتمر ميونيخ للأمن، الصادر مؤخراً، مصطلح «ما بعد الحقيقة»، وذلك في محاولة منه لمقاربة الأوضاع الأمنية الراهنة دولياً، والتي عدّها التقرير بأنها الأكثر خطورة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وقد يكون هذا المصطلح -للوهلة الأولى- غامضاً، ولا يعبّر بشكل مباشر عن مسائل وتهديدات أمنية محضة، لكن التدقيق فيه يبدو واجباً، أقله من أجل فهم مغزى التجاوز الذي يحمله المصطلح، والوقوف على طبيعة المخاطر التي يعانيها النظام الدولي الراهن، والتي تستدعي تبني مثل هذا المصطلح.
يشير التقرير آنف الذكر إلى حالة التفكك التي تعانيها المنظومة الدولية، والتي يمكن أن تشهد المزيد من المعضلات والأزمات التي قد تفضي إلى حالة من الاضطراب غير المسبوق في العلاقات بين الدول، ويبدو أن العديد من الظواهر تقف بشكل مباشر وراء ازدياد حالة القلق التي تعتري الكثير من اللاعبين الدوليين، وخصوصاً الاتحاد الأوروبي، ومن تلك الظواهر الانتعاش القوي لليمين المتطرف، في غير بلد أوروبي، والخطاب «الشعبوي» للرئيس الأمريكي الجديد، وما يمكن أن يتمخض عنه من سياسات، قد تضرّ بالتحالفات الاستراتيجية بين دول الاتحاد الأوروبي وبين الولايات المتحدة، بالإضافة إلى صعود الإرهاب بقوة، كلاعب رئيسي في المشهد الدولي، وحالة الاضطراب التي يعانيها الشرق الأوسط.
لقد أحدثت منظومة الأمن والاستقرار التي تشكّلت بعد الحرب العالمية الثانية نوعاً من الطمأنينة في النظام الدولي، وبُنيت على أساسها تحالفات متينة، شملت لاعبين من قارات مختلفة، وعرف الشرق الأوسط فيها نوعاً من التوازن القلق، لكنه كان توازناً مضبوطاً، كما تمكّن الغرب من تطوير مؤسساته الاقتصادية، وفتح أسواق مهمة عبر العالم، ولم يكن الإرهاب قد أخذ يتحوّل إلى بنية تنظيمية عالمية، لها مصادر تمويل، وقيادة، ومناصرين، وإعلام خاص بها، وقد أسهمت كل تلك العوامل في خلق ما يمكن تسميته «الحقيقة» المستقرّة والثابتة.
وإذا كان تفكك الاتحاد السوفييتي، في بداية تسعينات القرن الماضي، قد أعلن انتصار الليبرالية الغربية، وأوحى بأنها النظام الذي يسير نحوه العالم، وبأنها الأفق النهائي للتاريخ، بحسب «فوكوياما» الفيلسوف الأمريكي من أصل ياباني، إلا أن ذلك الانتصار نفسه سيكون مقدمة لنشوء عوامل كثيرة مشككة بالمنجز الليبرالي، وما أنتجه من منظومات وقيم وتحالفات، سادت في النصف الثاني من القرن العشرين، وما زال العالم يذكر أن من نتائج تداعي المنظومة الدولية ظهور المحافظين الجدد في أمريكا، والتي تبنّت سياسات استباقية، ما زالت مفاعيلها حاضرة حتى اليوم، ومنها التدخل الأمريكي في العراق، وآثاره الكارثية، ليس فقط على الشرق الأوسط، وإنما على العالم ككل.
إن الانتصار الليبرالي، بعد سقوط النظام الدولي ثنائي القطبية، لم يتمكّن من بناء نظام إدارة ديمقراطي للعالم، عبر قيام نظام شبكي، بل أنه سمح مع الوقت لنمو قوى مضادة للقيم الليبرالية في الغرب، والتي تزداد مساحة عملها السياسي، نتيجة فشل الاتحاد الأوروبي في تظهير نتائج انتصار الليبرالية في المستويين الاجتماعي والاقتصادي، كما أن تقدم اللاعب الصيني، غير الليبرالي، في سوق العمل الدولية، أكد من جديد أن الارتباط بين الليبرالية وتقدم اقتصاد السوق هو ارتباط غير حتمي.
وإذا كان التحالف الاستراتيجي بين أمريكا وأوروبا هو أحد الحقائق الثابتة التي سادت في النظام الدولي لعقود طويلة، فإن مجيء ترامب إلى سدّة الرئاسة في الولايات المتحدة أوجد حالة من انعدام اليقين عند الشريك الأوروبي، مع الأخذ بالحسبان بأن مواقف الطرفين الأمريكي والأوروبي قد تباينت حيال عدد من القضايا في ولايتي بوش الابن، وباراك أوباما، وخصوصاً حيال قضايا الشرق الأوسط، وكل ذلك يجعل من تلاشي حقيقة التحالف الاستراتيجي أمراً محتملاً.
إن الحقائق التي شكّلت الأساس الراسخ لعقود في النظام الدولي، تبدو اليوم على المحك، فالمصالح التي أسست لتلك الحقائق أخذت طريقها في التغيّر، ولم يعد عالم القيم الليبرالي كافياً لبناء سياسات مشتركة، بل أن العالم الليبرالي نفسه أصبح مخترقاً، عبر قوى غير ليبرالية صاعدة، وهو ما يعني أن جميع اللاعبين الدوليين مضطرون للقيام بجردة حساب، وتقويم للأوضاع المستجدّة، وربما التفكير بتحالفات جديدة، وهو ما يزيد من احتمال تصاعد عوامل التفكك في النظام الدولي، ما يعني، بطبيعة الحال، ازدياد حالة الفوضى والاضطراب.
العالم، من هذا المنظور، لا يعيش فقط في «عصر ما بعد الحقيقة»، بل في عصر «ما بعد النظام»، حيث لا نواة صلبة تقود دفة العلاقات الدولية، ولا تحالفات ثابتة، ولا تحالفات يمكن الاعتماد عليها في ضبط المشكلات الدولية الناشئة، وهو الأمر الذي يعني أن العالم سيعيش لسنوات، وربما لعقود مقبلة، في حالة من القلق واللايقين في العلاقات الدولية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"