فيروس العقل

03:41 صباحا
قراءة دقيقتين
يحيى زكي

كثيرة هي الأطروحات التي تتنبأ بمستقبل العالم في أعقاب «كورونا» من الناحية السياسية، أو الاقتصادية، أو حتى المجتمعية، ولكن ندر أن يتطرق أحدهم إلى ملامح المناخ الفكري العام الذي سنشاهده في مرحلة ما بعد الفيروس.

على مستوى الكتابة، لن نلاحق تلك الإصدارات التي يعكف عليها الكثيرون الآن، منها الطبي العلمي الحقيقي، وأكثرها تجاري، وسريع، وزائف، والقليل منها تحليلي هادئ، وأغلبها سريع، ولحظي، وسطحي، وهناك من سينشر فصلاً جديداً في نظرية المؤامرة، يعيد فيه ترتيب الأحداث بقواها الفاعلة ليصل إلى نتائج غريبة، تداعب المهووسين بالأسرار، والنمائم، والحكايات العجيبة، وسنقابل من سيشتغل على دراسة يعود فيها إلى الماضي ليوثق بالأدلة أن هذا الكتاب، أو تلك الرواية، أو المسلسل، أو الفيلم، توقعت مكان وزمان «كورونا» بالتفصيل، وهو اتجاه بدأ يطل علينا بخجل، وسنجد تسريبات من أكثر من موقع على الشبكة تتعلق بما يبدو أنها وقائع حدثت على الأرض، وحُجبت عنا.

أما على مواقع التواصل الاجتماعي، وبرغم واقعها البائس حالياً في التعامل مع أزمة الفيروس، فإننا سنعثر على من سيحكي عن بطولات وهمية، وسيصادفنا من سيتحدث بلهجة الخبير العارف ببواطن الأمور. وفي المنتج الثقافي العام، سنلهث وراء سلاسل من الأفلام السينمائية، والبرامج الوثائقية التي تتناول الوباء من مختلف زواياه.

سنعيش فترة، ربما تقصر، أو تطول، أسرى لفكر ما بعد «كورونا»، وهو فكر سيفرز أطروحاته، ورؤاه وثقافته، وأيضاً نجومه، ومعظم هذه الأفكار يبدو أنها ستكون سطحية، ولن يختلف أصحابها في مستواهم المعرفي كثيراً عن أغلبية المؤثرين في مواقع التواصل الاجتماعي، وسيزداد الطين بلة في العالم العربي، بوصفنا لم نتعود على استخدام الذائقة النقدية، أو إعمال ملكة التحليل، أو التأمل في ما نتعرض له من أحداث، أو يمر علينا من معلومات، ستكون ساحتنا خلال تلك الفترة خصبة لإنتاج بيئة يعود فيها العقل إلى الوراء، وتهيمن فيها الثقافة السمعية، والمرئية، خاصة أن معدلات القراءة، فضلاً عن القراءة «الحقيقية»، لا تزال متراجعة عن نظيرتها في العديد من بلدان العالم.

وستتوارى بعض الأعمال الجادة، والأفكار الهادئة والموزونة، والنيّرة في خلفية المشهد، إما لرزانة أصحابها وابتعادهم عن الأضواء، وإما لأن معظمنا سيكون في فترة النقاهة النفسية بعد انتهاء الوباء، والتي لن تسمح له بالبحث عن الحقيقي والهادف. علينا أن ننتبه حتى لا نقع آنذاك ضحايا لفيروس «كورونا» العقلي، فإصلاح العقل بعد تخريبه لا يستغرق شهوراً عدة، ولكنه يتطلب عشرات السنوات من العلاج المستمر، ويحتاج إلى أكثر من لقاح، وربما يستدعي إعادة البناء بالكامل.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"