ماذا تعلّم العالم من مأساة هيروشيما؟

05:16 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. غسان العزي

من المفارقات التي حولت مجرى التاريخ المعاصر أن ألمانيا النازية التي كانت متفوقة في المجال النووي، في ثلاثينات القرن الماضي، قررت إهماله مؤقتاً لتركز على تطوير صناعاتها الصاروخية. وكان الأمريكيون، من جهتهم، قد بدأوا بالعمل سراً، منذ العام ١٩٤٢، على تطوير السلاح النووي مستفيدين من خبرة العلماء الأوروبيين الذين هربوا من النازية إلى الولايات المتحدة. وشاء القدر ألّا تصبح القنبلة النووية الأمريكية جاهزة إلا في ١٦ يوليو/تموز ١٩٤٥ (تاريخ الاختبار النووي الأول) أي بعد استسلام ألمانيا بثلاثة أشهر. وفي السادس من أغسطس/آب قامت واشنطن بإلقاء قنبلتها النووية الأولى على هيروشيما، وفي التاسع منه، ألقت قنبلتها الثانية على ناكازاكي.

وينقسم المؤرخون حول تحليل أسباب هذا الفعل الأمريكي المريع، في وقت كانت تتساقط فيه دول المحور الواحدة تلو الأخرى. فمنهم من يقول إن الرئيس ترومان سعى من وراء ذلك إلى فرض تفوق بلاده على الاتحاد السوفييتي الذي كان يقوده ستالين، معلناً بداية الحرب الباردة بعد أن تضع الحرب العالمية الثانية أوزارها. ومنهم من يعتقد أنه كان يريد استعجال الاستسلام الياباني عبر عمل مخيف يقضي على معنويات الشعب الياباني وقادته قضاءً مبرماً، الأمر الذي يجنب الجيش الأمريكي أعباء القيام باجتياح عسكري مكلف جداً للأرخبيل الياباني، خصوصاً بعدما خسر هذا الجيش حوالي مليون جندي، بين قتيل وجريح، في الحرب العالمية الثانية حتى يوليو/تموز ١٩٤٥. وقتها لم تكن السلطات الأمريكية، السياسية والعسكرية، المكلفة قيادة «برنامج مانهاتن» النووي، قد أدركت حجم الانقلاب السياسي- الاستراتيجي، الذي سيحدثه ظهور القنبلة النووية على النظام الدولي، ومفاهيم الحرب والسلم والدمار الشامل وغيرها.
لم يدم الانفراد الأمريكي بهذا السلاح المريع وقتاً طويلاً، فقد كسره الاتحاد السوفييتي عندما أجرى تفجيره النووي التجريبي في العام ١٩٤٩ لتلحق به بريطانيا في العام ١٩٥٢ ثم الصين، في العام ١٩٥٤، ثم فرنسا في العام ١٩٦٠. وهكذا أضحى النادي النووي مكوناً من خمسة أعضاء هي الدول الكبرى دائمة العضوية في مجلس الأمن. من جهتها «إسرائيل» تمكنت، عبر «برنامج شمشون» بإدارة شيمون بيريز ومساعدة الفرنسيين، من الاستحواذ على الصناعة النووية العسكرية التي مكنتها من صناعة مئات الرؤوس والقنابل النووية من دون أن تعلن ذلك على الملأ، فيما أجرت الهند وباكستان علناً تفجيراتهما النووية التجريبية في مايو/أيار ١٩٩٨. ولا ننسى كوريا الشمالية التي لم تنفع محاولات واشنطن لمنعها من صناعة القنبلة النووية.
من الناحية التكنولوجية، فكما شهدت الأسلحة التقليدية تطورات هائلة في قدراتها التدميرية عرفت أسلحة الدمار الشامل بدورها تطوراً لافتاً. فقد انتقلنا من قنابل نووية تُقدر بالكيلو طن (آلاف الأطنان من تي. إن. تي) ثم بالميغاطن (ملايين الأطنان) المنقولة بالطائرات المقاتلة، إلى عصر الصواريخ البالستية التي تحمل رؤوساً أكثر فتكاً وتدميراً وتعبر آلاف الكيلومترات بدقائق معدودة. ثم نقلنا التطور السريع من عصر ينتصر فيه من يوجه الضربة الأولى إلى عصر الردع النووي، الذي باتت فيه هذه الأخيرة مستحيلة لأن العدو بات قادراً على استيعاب هذه الضربة، والرد بضربات مماثلة أو أقوى، وذلك من صواريخه المتمركزة خارج الحدود الوطنية في الغواصات القابعة في أعماق المحيطات، على سبيل المثال.
قنبلة هيروشيما أقرب إلى دمى الأطفال بالمقارنة مع قدرات الرؤوس النووية التي تحملها الصواريخ البالستية في يومنا هذا. وبعد سبعين عاماً لايزال الموت مقيماً في المدينتين اليابانيتين، حيث يموت ناس ويولد أطفال مشوهون من بقايا تلوثات إشعاعية. ويحتفل اليابانيون بالذكرى المشؤومة في كل عام، لكن هذه السنة كان لها طعم خاص لاسيما بعد قرار الحكومة تفعيل العمل بمفاعلات فوكوشيما (التي ضربها زلزال مدمر في العام ٢٠١١، نتج عنه تسربات إشعاعية وتدمير للمفاعلات وللمنطقة المحيطة بها، ناهيك عن آلاف الضحايا من السكان اليابانيين)، والمعارضة الشعبية لهذا القرار. والمعروف أن اليابان أضحت، بعد استسلامها في العام ١٩٤٥، دولة مسالمة بموجب المادة التاسعة من دستورها الذي يمنع عليها صناعة السلاح والمشاركة بعمليات عسكرية خارج البلاد. وتمارس واشنطن ضغوطاً عليها لتعديل الدستور أو على الأقل التعاطي بمرونة مع هذه المادة التاسعة. وتود حكومة آبي القومية المتشددة تلبية الرغبة الأمريكية (زيادة الإنفاق العسكري الياباني، المساهمة في الأمن الإقليمي، والمشاركة في بعض التدخلات العسكرية الأمريكية في العالم...) لكن الضغوط الشعبية تذهب في غير هذا الاتجاه، فأهوال الحروب الماضية لاتزال تشكل في الذاكرة الجمعية اليابانية رادعاً عن العسكرة التي لطالما ميزت تاريخ الساموراي..
ماذا تعلّم العالم من مأساة هيروشيما وناكازاكي؟ لا شيء في الحقيقة. فالولايات المتحدة نصبت نفسها زعيمةً على «العالم الحر» غداة ارتكابها للجريمة، وبقيت تعطي للعالم دروساً في الإنسانية والحرية خلال الحرب الباردة التي قتل فيها ثمانون مليون إنسان في العالم (بحسب إحصاء أجراه زبيغنيو بريجنسكي) في حروب باردة وحامية مباشرة وبالوكالة. ولاتزال تغطي على الجرائم «الإسرائيلية» ضد المدنيين الفلسطينيين العزل وتغطي على امتلاك كيان الاحتلال لكل أنواع أسلحة الدمار الشامل.
ولايزال سباق التسلح سيد الموقف في العلاقات بين الدول التي يسعى بعضها للاستحواذ على أسلحة الدمار الشامل رغم المعاهدات والاتفاقات في مجال منع الانتشار. ولاتزال القوى العظمى تتنافس في تطوير أسلحتها لتغدو أكثر فتكاً وتدميراً. وباختصار لايزال قول المتنبي راهناً:
كلما أنبت الدهر قناةً ركب المرء في القناة سنانا

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"