مسؤولية النخب في مواجهة الوباء الطائفي

04:25 صباحا
قراءة 4 دقائق

عقب صلاة عيد الفطر المبارك (9 أغسطس/آب الماضي) اندلعت اشتباكات بين أنصار الحوثيين وأنصار السلفيين في منطقة دماج في محافظة صعدة شمال المدينة سقط خلالها سبع ضحايا من الجانبين .

هذا الحدث الدامي وقع بين طائفتين إسلاميتين أمام دار عبادة إسلامية، وصبيحة يوم عيد المسلمين . خبر قديم بعض الشيء، وليس غاية هذا المقال بطبيعة الحال نشر أخبار سواء كانت قديمة أم جديدة . التذكير بالخبر القديم مبعثه الإشارة إلى تجدد المواجهات الطائفية في هذا البلد الذي اشتهر على مر التاريخ بتعدد طوائفه وتعايشها مع مراحل من الصراع السياسي الذي استخدم الطوائف وقوداً . وكانت المواجهات مع الحوثيين قد وسمت السنين الأربع الأخيرة من حكم الرئيس السابق علي عبدالله صالح، وكان البعد السياسي هو الغالب عليها، من دون إنكار الجانب الطائفي .

الاشتباكات بين الحوثيين تجددت يوم الجمعة الماضية 30 أغسطس/آب من دون أن تسفر هذه المرة عن سقوط ضحايا . وليس غريباً أن تنشأ هذه التحديات في بلد ما زال ينوء بمشكلاته البنيوية الموروثة . وإن كان الأمل معقوداً بأن تنجح الجهات والقوى الأكثر استنارة في الحكم وفي المجتمع لتطويق مثل هذه الخلافات وغيرها ذات الصلة، والتي تتغذى من بعضها بعضاً .

والحال أن اليمن ليس البلد العربي الوحيد الذي يواجه تلك المشكلات التي طفت على السطح وبقوة منذ بواكير الألفية الثالثة، وكانت تظهر قبل ذلك بصورة محتشمة كما يقول المغاربة، فقد باتت هذه الصراعات الناجمة عن إنبعاث الهويات الفرعية والأولى، ميسم الحراك الاجتماعي السلبي في غالبية دول المشرق العربي . وللأسف فإنه خلف واجهة التعددية السياسية والحزبية والتقاء النخب في أنشطة نقابية وثقافية، ووراء شعارات الوحدة الوطنية تنتشر الانقسامات والاستقطابات الاجتماعية التي لم يشهد العالم العربي مثيلاً لها منذ نصف قرن وأزيد، وحين كان مستوى التعليم أقل

مما هو عليه حالياً، وفي غياب وسائل الاتصال الفاعلة وحتى

مع ضعف وسائل المواصلات داخل البلد الواحد ومع العالم الخارجي .

من الواضح أن الطائفية باتت تستخدم كسلاح سياسي ولغايات التصدر السياسي، وأداة استقطاب وتحشيد لجمهور أهلي ومناطقي . وإلا كيف تم اكتشاف الطوائف فجأة بين ظهرانينا وهي الموجودة منذ القدم ولطالما تعايشت وتفاعلت ايجابياً ما بينها، وبينما كانت الطوائف محترمة ومصانة كتشكيلة أو وحدة اجتماعية، فإن أحداً لم يكن يُشهر هويته الطائفية في وجه أحد، إذ كان الفيصل هو التصدر في الوطنية الجامعة، أو النجاعة السياسية لهذه المجموعة أو تلك، أو الحزبية لهذا التنظيم أو ذاك، وباستثناء لبنان الذي يقوم نظامه على التوزيع الطائفي، فإن مشكلة طائفية لم تكن لتظهر في بقية الدول والمجتمعات، حتى انه كان من المعيب بروز التصنيف الطائفي وفي مجتمعات ريفية محافظة لا في المدن فحسب . على امتداد نحو ربع قرن كان الصراع يدور في العراق مثلاً بين نظام بعثي صدامي شديد الاستبداد، وبين معارضيه الكثر من مختلف الطوائف ومن دون نزعة طائفية تذكر . هذا دون التقليل من الأثر الذي تركه أداء النظام في إيران من نزوع طائفي، وما كان لذلك إلا أن يحدث مع تصدّر رجال دين للحكم الجديد . وها هو الصراع الداخلي في العراق يقوم منذ عشر سنوات على انشطار طائفي وتعبئة طائفية .

في القناعة أن بروز التقسيمات الطائفية يعود في الأساس الى اخفاق الدول العربية في بناء دولة عصرية تقوم على مبدأ المواطنة العابرة للأعراق والأديان والطوائف والمناطق .

هذا الخلل الجوهري لم توجه له التيارات الحديثة القومية والليبرالية واليسارية ما يكفي من نقد وتشريح طيلة أربعة عقود مذ سبعينات القرن الماضي . كان نضال تلك القوى قاصراً على مواجهة التحديات الخارجية والموقف من التكتلات العالمية الكبيرة، من دون أن يحظى البناء الداخلي الدستوري باهتمام يذكر . وقد حدث بعدئذ أن جمهور تلك القوى الحديثة أخذ ينزع نحو الاستقطابات التقليدية، بل رأى بعض هذا الجمهور أن معالجة مشكلاته الاقتصادية والسياسية تكمن في الالتحاق بزعامات محافظة حصرا .

وأبعد من ذلك فقد انزلقت بعض الرموز السياسية الحديثة في غير بلد عربي وانضمت إلى تشكيلات طائفية، بمجاراة للوضع السائد ومحاولة استثماره لمآرب ضيقة ومنفعية، الأمر الذي أضفى صورة زاهية وخادعة بالطبع على تلك التشكيلات التي باتت تضم مثقفين وسياسيين اتسم تاريخهم الشخصي بالمعارضة، ما أسهم في خلط الأوراق وفاقم من صعوبات مقاومة الفرز الطائفي البغيض .

نؤمن بأن هدف بناء الدولة الحديثة، دولة المواطنة والحقوق الدستورية والنابذة لكل تصنيف وتمييز ايجابي أو سلبي لحساب فئة وضد فئة أخرى، هو هدف بعيد المنال والطريق إليه طويلة ذات مراحل متعاقبة ومتعرجة، وخاصة مع اشتباك المشكلة الطائفية بمشكلات اقتصادية وسياسية جمة وبتحديات داخلية وخارجية تمس الدول والمجتمعات على السواء، إلا أن ذلك لا يعفي النُخب المتنورة من أداء رسالتها، بالتأشير على هذه الأعطاب الاجتماعية، وعلى ان المواطَنة الصالحة تكمن في السعي للخير العام، للصالح العام الذي ينعكس ايجاباً على سائر الفئات والمجموعات، ويحسن هؤلاء المثقفون والاختصاصيون والتكنوقراط بالمبادرة إلى الانفكاك عن الزعامات الطائفية لا عن الطوائف بالطبع . هذا هو ألف باء التغيير الثقافي الذي ينشد الارتقاء بالمفاهيم ويرفض وضع حواجز بين أبناء الوطن الواحد والمجتمع الواحد . وذلك ليس حلماً طوباوياً، فقد كنا كذلك قبل نصف قرن، ومن الأهمية بمكان ابتعاث تلك الصفحات المشرقة من تاريخنا السياسي والاجتماعي .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"