هذا زمان التشظّي

04:12 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسن العديني

يشهد العالم منذ نهاية الحرب الباردة، تحوّلات في السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية. وفي حين بشّر مفكرون في الغرب بنظام عالمي جديد على أنقاض الثنائية القطبية، طويت صفحات العقود الأربعة الأخيرة على أدخنة وفوضى بلا حدود دون أن يتبدّد القلق من خطر مواجهة بالسلاح النووي. وفي الاقتصاد ترسّخت هيمنة الاحتكارات وارتفعت وتيرة نهب ثروات الشعوب الفقيرة، واتسعت الفجوة في الدخول على مستوى البلد الواحد. وفي السياسة كفت الحروب عن أن تكون بالوكالة بين الدول إلى حروب بالأصالة بين الطوائف، ومن دون إغفال العامل الخارجي، لأن الحروب ليست مطلوبة في ذاتها، ولكنها صناعة السلاح وبيوتات المال تتغذّى بالدماء والأرواح. وبينما دارت رحى الأولى على الحدود والتخوم، تولّت الأخيرة حرق المدن والقرى، ولم يعد القتلى جنوداً يحملون السلاح، بل هم نساء في المنازل وأطفال في المدارس وشيوخ في أسرّة المرضى.
ترتّب على هذا أو رافقه اتجاه التكتلات الإقليمية والقارية نحو التفتت، وميل الدول إلى الانقسام والتشظّي. وكان الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال، إحدى ثمار القارّة العجوز في فترة ما بعد الحرب الثانية، نضج في الوحدة النقدية مطلع القرن إلا أن الزمن لم يمهله طويلاً، لكي يفاجأ بأزمة اليورو التي ضربت جنوب أوروبا (اليونان وإسبانيا والبرتغال)، ثم وقعت ضربة في رأس الاتحاد، بتصويت البريطانيين على الانسحاب. وفي أمريكا الشمالية حمل رئيس الولايات المتحدة القادم من طبقة رجال الأعمال، فكرة إحراق الاتفاقية التجارية بين بلاده وكندا والمكسيك. ولم يسلم العالم العربي الممزّق أصلاً من لوثة تهديد التكتلات الإقليمية بالانهيار، فالتجمّع الذي يضم دول الخليج، وجدت إيران المهووسة بإحياء الإمبراطورية الفارسية في مرض سلطات قطر بتضخيم الذات، مسماراً للإيذاء والإيلام.
وتئن بلدان عربية عدّة تحت حروب تنذر بمصائر مخيفة، فالحريق ممتد من اليمن في أقصى الجنوب إلى العراق والشام حتى ليبيا وما بعدها.
والعراق أول من يشي بالجائحة، فها هو يقترب من التقسيم، بعد أن حسم الأكراد خيارهم في استفتاء حول الانفصال، لكن استقلال كردستان العراق وحده، يضيف مشاكل إلى معاناة الأكراد ولا يخفف منها. إنه يثير قلق دول الجوار وخوفها من انتشار حمى الرغبة في الاستقلال، فإذا ما قامت دولة لهم شمال العراق فسوف تعيش داخل طوق معاد لها، كما ستحرض الدول المحيطة على تشديد القبضة على الأكراد في بلدانها. وبالفعل فقد سارعت كل من تركيا وإيران إلى إجراءات مشتركة مع حكومة بغداد، لضرب حصار على كردستان العراق من أجل إجباره على إلغاء نتائج الاستفتاء، ولم تتردد العواصم الثلاث عن التهديد بالحرب رغم أن الأمر لن يتعدى استعراض القوة، ليس بسبب عجز المنطقة على احتمال حروب إضافية، بل لأن القفزة التي قام بها مسعود البرزاني تمت بموافقة أمريكية.
وهناك طائفة واسعة من الأكراد تقدّر المخاطر التي ستترتب على الاستفتاء، وفي نفس الوقت هناك في بغداد من يدرك أن سياسة الخنق لن تقود إلى مخرج جميل. وحيث يشعر الجميع أنهم يدفعون بالعناد، البلاد إلى كف الريح، فقد طرح الحوار نفسه بإلحاح، لكن العقدة أن بغداد تشترط خطوة إلى الخلف وأربيل تعرض وقفة في المكان. لكني لا أظن أن الوضع قابل للمقامرة، فقد تضطر بغداد إلى الانخراط في الحوار دون شرط إلغاء الاستفتاء إذا حصلت على تعهدات من طرف ثالث (الولايات المتحدة) بمطالب تخص كركوك، وبإدارة مشتركة للمعابر والمطارات، وأن يتوقف مشوار الخروج من الخيمة الكبيرة عند الكونفيدرالية لا الانفصال الكامل. لكن وأينما ذهبت الرياح فإن قضية الأكراد ستظل تطرح أسئلتها الجارحة للضمير الإنساني والمحرجة لمطالب السلام والعدل في الإقليم وفي العالم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"