يهود «الفلاشا» مجرد أفارقة!

04:14 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود الريماوي

شهدت الدولة العبرية منذ مطلع يوليو/تموز الجاري، احتجاجات واسعة وعنيفة ليهود الفلاشا المجلوبين من إثيوبيا. العنف الذي اتسمت به هذه الموجة من الغضب، أربكت حكومة بنيامين نتنياهو، وألقت ضوءاً كاشفاً على ما يعتمل به المجتمع الصهيوني من تناقضات. المحتجون ثاروا على مقتل فتى إثيوبي على يد ضابط في الشرطة، وقد اعتبروا أن مقتله تم لأسباب عنصرية. وبينما ينكر كثيرون من الساسة واقع التمييز، إلا أن واقع الحال يثبت أن تركيبة المجتمع والسلطة القائمة على تسيّد الأشكناز البيض من أصول غربية، لا تستوعب ذوي الأصول المختلفة الشرقية منها والإفريقية، إلا على نطاق ضئيل. فحتى العام 1979 كان القادة الصهاينة يرفضون انضمام الإثيوبيين اليهود إلى المجتمع الصهيوني. ولم يتغير الأمر إلا مع حكومة إسحق رابين، حيث بدأت تتم عمليات سرية في عقد الثمانينات لاجتلاب هؤلاء، وبعضهم وفدوا عن طريق السودان في عهد جعفر النميري، في ما عرف آنذاك ب«عملية موسى».
ومن المعلوم أن المجتمع «الإسرائيلي» يضم إثنيات شتى، وكثير منها منغلق على نفسه، وذلك نتيجة الفروق الثقافية بين اليهود الوافدين من بلدان ومجتمعات شتى إلى أرض فلسطين. ويشكو الفلاشا من ارتفاع معدلات البطالة والفقر، ومن إقامتهم في مناطق معزولة بعيداً عن بقية مكونات هذا المجتمع.
وليست الاحتجاجات الأخيرة هي الأولى لهؤلاء، ففي العام 2005 اقتحم ثلاثة الآف منهم مقر الكنيست احتجاجاً على رفض تجمعات اليهود البيض بيع أو تأجير بيوت لهم في جنوب البلاد. كما يستذكر هؤلاء واقعة قيام مركز طبي بإلقاء دم تبرعت به نائبة من أصل إثيوبي في حاوية القمامة. وهي حادثة رمزية زاخرة بالدلالات عن التمييز في أنواع الدم. وهو ما حمل متظاهرين من الفلاشا على رفع شعارات كتبوا فيها: «دمنا الأحمر يصلح فقط للحروب»، و«وجوهنا سود لكن قلوبنا بيضاء، وأنتم وجوهكم بيض لكن قلوبكم سوداء».
وقد بلغ الأمر في الاحتجاجات الأخيرة أن تم رفع العلم الفلسطيني على أعمدة الإنارة، وترديد نداء: الله أكبر، من طرف المحتجين الإثيوبيين، وذلك في استبطان لأصل التمييز الذي طال الفلسطينيين والتذكير به، ولإثارة حفيظة التيارات الأكثر تطرفاً. وللأسف فإنه لم يتم الرد بتحية مناسبة على هؤلاء من طرف المجتمع السياسي في الداخل الفلسطيني.
ومع موجة العنف هذه، وفي غمرة الارتباك الذي وقع، فقد تم اعتقال 130 يهودياً من أصل إثيوبي، وزعمت الشرطة إصابة 111 من عناصرها في المواجهات، التي وقعت أشدها في حيفا وتل أبيب، والتي تكشف هشاشة داخلية تقوم على الفوارق الثقافية والتباينات الاجتماعية والفجوات الطبقية. على أن الأهم من ذلك أن النهج العنصري الذي يسم المجتمع الصهيوني تجاه أصحاب الأرض الأصليين، أخذ يرتد شيئاً فشيئاً على مكونات مجتمع الوافدين من وراء البحار. وذلك رغم حرص السلطات على تفعيل القانون حين يتعلق الأمر باليهود والمنازعات بينهم. وكذلك رغم انتهاج السلطات سياسة تقوم على عدم تظهير الأصول العرقية، ومنع الترشيح الفردي في الانتخابات البرلمانية، والإعلاء من شأن التنظيم الحزبي في التنافس السياسي والانتخابي، وذلك لطمس الفوارق الفردية والعرقية.
غير أن النشاط المحموم والمتدفق على وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، يكسر المحددات التي تفرضها المؤسسة الحاكمة، ويتيح مجالاً للتواصل وللتعرف على ما يجري في العالم والتفاعل معه، وكذلك الأمر في الوقوف على مواقف الأطراف الاجتماعية المختلفة. وهو ما انعكس في حالة ذعر وهلع في الأوساط الصهيونية، نتيجة امتداد الاشتباكات وخروجها عن السيطرة، وانتشار أخبارها على نطاق واسع في الميديا العالمية، مع كسرها للصورة النمطية الزائفة للدولة العبرية التي تبدو فيها دولة قانون تكفل حرية التجمعات وحرية التعبير. وقد جاء وقوع الاحتجاجات في أجواء التحضيرات للانتخابات المقررة في سبتمبر/أيلول المقبل، ليزيد من حساسية الموقف، حتى إن أصواتاً ظهرت في الأوساط اليمينية المتطرفة، تزعم أن «اليسار» يقف وراء هذه الاحتجاجات لتحقيق أهداف انتخابية.
هذه الاحتجاجات نجحت في إجلاء صورة المجتمع الصهيوني من الداخل، ودلت على أن العنصرية لا تقتصر على التعامل مع أبناء البلاد الأصليين، بل تمتد نحو بعض اليهود، الذين يراهم البعض في ذلك المجتمع مجرد أفارقة رغم كل شيء!

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"