“بيكيتي” والتحولات المطلوبة

04:46 صباحا
قراءة 4 دقائق

د . لويس حبيقة
اعتمدت دول العالم منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، وبتوجيه من الولايات المتحدة والمؤسسات الدولية، علاج الرأسمالية لمعالجة مشكلات النمو والبطالة وحتى التنمية . منذ ربع قرن، تطبق أكثرية الدول الليبيرالية الاقتصادية في سبيل الإصلاح . أحد أهم ركائز هذا التحول تخفيف دور الدولة في الاقتصاد خدمة لعاملين مهمين . أولهما لأنه يسهم في تفعيل الاقتصاد ورفع الإنتاجية، وبالتالي النمو كما الحركة الاقتصادية العالمية . ثانياً لأنه يخفف من فرص الفساد والضبابية الإدارية التي تنمو مع وجود قطاع عام كبير . هناك اعتقاد عام يشير إلى أن الليبيرالية تسهل عمل القطاع الخاص، إذ تخفف العوائق الإدارية أمام نموه . من أهم نتائج هذه العقيدة تطبيق برامج الخصخصة في كل دول العالم، بدءاً من بريطانيا إلى كل دول الاتحاد السوفييتي السابق وأوروبا الشرقية وغيرها . تحويل ملكية أو إدارة المؤسسات العامة إلى القطاع الخاص كان من المفروض أن ينقل الدول والاقتصادات من مستوى نام إلى آخر متقدم ومتطور، إضافة إلى أنه يشجع التنمية تدريجيا بسبب ارتفاع الإنتاجية العامة .
من أهداف الليبيرالية توسيع أعمال وأحجام القطاع الخاص في كل الدول على حساب العام الذي تعشعش فيه الفساد عالمياً . ترافق توسيع القطاع الخاص مع قوانين وإجراءات جديدة تشجع على المنافسة منعاً للاحتكارات وحماية للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة كما للمستهلك . المعلوم أن القطاع الخاص، إذا ترك لنفسه، ينتج حكماً كباراً يسيئون إلى الحرية ويقضون على المنافسة التي هي أساس النظام الاقتصادي الحر . هناك إذا ضرورة لوضع قوانين صارمة تمنع عملياً أن تأكل السمكة الكبيرة المنافسين الأصغر حجماً، وبالتالي تقضي على المنافسة وتعزز الاحتكارات . ليست هناك أي شركة في العالم لم تحاول القضاء على المنافسة، لكن القوانين في العالم الغربي خاصة منعتها وفرضت عليها عقوبات مكلفة . الليبيرالية الاقتصادية هي ليست فقط حرية، إنما أيضاً ضوابط صارمة موضوعة كي تستمر الحرية في العمل والوجود .
فهنالك شعور عالمي اليوم بأن الليبيرالية تخطت الحدود النظرية الموضوعة لها، وأنتجت خسائر كبرى على الشعوب وخاصة الفقراء . هذا لا يعني أن هناك عودة إلى الشيوعية أو إلى الاشتراكية القاسية، إنما هناك عودة إلى دور اقتصادي أكبر للقطاع العام . يمكن وصف هذا الواقع بالعودة إلى الوراء، أو ربما بالخطوات إلى الأمام لأنه من المستحيل إلغاء العديد من القرارات التي اتخذت سابقا وتم تطبيقها لأكثر من ربع قرن . هناك ضرورة لوضع معالجات متقدمة للعديد من النتائج المزعجة التي لا تتحمل مسؤوليتها الليبيرالية نفسها، بل من أساء إليها في التطبيق السريع الشامل وغير المدروس . ما هي أبرز هذه النتائج السلبية التي حققتها الليبيرالية، بالرغم من أن النتائج الايجابية لا تخفى على أحد، وهي تحقيق نمو عام قوي متواصل لسنوات طوال؟
أولاً: الأزمات المالية في الدول التي اعتمدت حلم الليبيرالية، ومنها دول الاتحاد السوفييتي السابق وأوروبا الشرقية، كما دول شرق آسيا وأمريكا اللاتينية وغيرها . هناك أزمات كبرى حصلت في الأرجنتين مثلا ولم تنته حتى اليوم . هناك أزمة دول شرق آسيا في التسعينات التي لم تعالج كليا، كما أن هناك أزمة 2008 الكبرى التي ما زلنا نحصد نتائجها بالرغم من كل المحاولات التي قامت وتقوم بها الدول المعنية الأساسية خاصة في أوروبا .
ثانياً: ظهور فجوات كبرى متزايدة في الدخل خلال ربع القرن الماضي الأخير التي جعلت شريحة كبرى من الناس تشعر بأنها خارج اللعبة . توسع الفجوة لا يعني بالضرورة أن الفقير أصبح أفقر، بل إن الغني استفاد من الأوضاع أكثر منه وبالتالي توسع الفارق . هناك حقيقة نفسية تشير إلى أن الإنسان لا يقيس أوضاعه الحالية بماضيه فقط، بل يقيسها خاصة بغيره في المجتمع وبأقرب الناس إليه . لا شك في أن الطبقات الفقيرة تشعر اليوم بأنها في حالة أسوأ ليس بالضرورة مقارنة مع الماضي وإنما خاصة مقارنة مع الميسورين في ظل مجتمعات يتوافر فيها سلع وخدمات أكثر بكثير من السابق .
هنالك كتاب جديد مهم ل"توماس بيكيتي" Piketty عنوانه "رأس المال في القرن الحادي والعشرين" أخذ تحضيره وكتابته أكثر من عقد من الزمن . يشير إلى واقع وخطورة ارتفاع فجوة الدخل بين المواطنين عالمياً، نتيجة تطبيق الليبيرالية الاقتصادية لأكثر من 25 سنة . يقول إن الثروة نمت بنسب أعلى من الناتج المحلي الإجمالي، وبالتالي يقترح وضع ضريبة على رأس المال . ضمن هذا الواقع الموصوف والمدروس، من له ثروة كبرى حقق أيضاً عائداً أكبر، وبالتالي توسعت فجوة الدخل بشكل كبير . يتخوف "بيكيتي" من تأثير هذه الحقيقة في الديمقراطية والعدالة الاجتماعية حتى في الدول الأكثر تطوراً . يقترح "بيكيتي" وضع ضريبة على رأس المال، وهذا غير مسبوق، إذ إن الضرائب العادية تقع على ما ينتج عن رأس المال، وليس على رأس المال نفسه . الضريبة تطال اليوم الدخل الذي ينتج عن تشغيل رأس المال كما الفارق في قيمة رأس المال عندما ترتفع . ييقترح "بيكيتي" أن تكون هذه الضريبة على رأس المال نفسه عالمية، بحيث لا تنتقل الاستثمارات من دول إلى أخرى بسببها . تسهم إيرادات هذه الضريبة في تخفيف فجوة الدخل عبر مشروعات ومساعدات وحوافز تطال من يحتاج إليها من الفقراء والشركات الصغيرة والمتوسطة كما المستثمرين الأفراد وغيرهم .
أما من ناحية نسبة هذه الضريبة السنوية، فتتصاعد مع قيمة رأس المال، بحيث يمكن أن تصل إلى 10% للثروات الكبيرة .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"