«لا يدخل الجنة قاطع رحم»

مكارم الأخلاق
04:47 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. رشاد سالم *

ليس أدل على حفاوة الإسلام البالغة بالرحم من تلك الصورة الرائعة التي رسمها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، للرحم تقوم بين يدي الله في الساحة الكبيرة التي خلق الله فيها الخلق، فتستعيذ به من قطيعتها، ويجيبها الله عز وجل إلى سؤلها، فيصل من وصلها، ويقطع من قطعها؛ وذلك في الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه ، قال: قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى خلق الخلق، حتى إذا فرغ منهم، قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة. قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك ؟ قالت: بلى، قال: فذلك لك». ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرءوا إن شئتم: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23).
متفق عليه.
ولقد جاءت آيات القرآن الكريم مؤكدة منزلة الرحم في الإسلام، حاضة على الإحسان إليها، محذرة
من الإساءة إليها، «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا».(النساء،1)، فقد أمر بتقوى الله وثنى بالأرحام؛ إعظاماً لها، وتأكيداً لتوقيرها.
وحسب الرحم أهمية ومنزلة أن الأمر بصلتها وبرها أتى في أكثر الآيات الكريمة بعد الإيمان بالله والإحسان بالوالدين، «وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا».(الإسراء،٢٣)، ثم قال بعد ذلك تعليلاً «وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا». (النساء، ٣٦)
وقد استفاضت النصوص التي تحض على صلة الرحم وترغب فيها وتحذر من قطيعتها وتتوعد جافيها، فعن أبي أيوب الأنصاري أن رجلاً قال: «يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم» متفق عليه.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: «من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه». متفق عليه.
هي إذاً بركة على الواصل في رزقه، وبركة في عمره، تزيد في ماله وتنميه، وتطيل في أجله وتبارك فيه.
وكان ابن عمر يقول: «من اتقى ربه، ووصل رحمه نسئ في أجله، وثري ماله، وأحبه أهله»، وبالمقابل نجد قطيعة الرحم شؤماً على صاحبها وبلاء، ومقتاً له من الله والناس، وبعداً له عن الجنة في دار القرار.
وحسب قاطع الرحم بلاء وشقاء وحرماناً أن يسمع قول الرسول، صلى الله عليه وسلم، فيه: «لا يدخل الجنة قاطع رحم» متفق عليه.
وحسبه شؤماً وتعساً وضلالاً أن الرحمة لا تتنزل على قوم هو فيهم، كما في الحديث الذي رواه البيهقي في شعب الإيمان: «إن الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم». رواه البخاري.
ولهذا كان الصحابي الجليل أبو هريرة، رضي الله عنه، لا يرضى أن يدعو الله في مجلس فيه قاطع رحم؛ لأنه يحول دون نزول الرحمة واستجابة الدعاء، فقد قال في أحد مجالسه عشية يوم خميس ليلة الجمعة: «أحرج على كل قاطع رحم لما قام من عندنا، فلم يقم أحد، حتى قال ثلاثاً، فأتى فتى عمة له قد حرمها منذ سنتين، فدخل عليها، فقالت له: يا ابن أخي ما جاء بك؟، قال: سمعت أبا هريرة يقول كذا وكذا، قالت: ارجع إليه فسله: لم قال ذلك ؟، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أعمال بني آدم تعرض على الله تبارك وتعالى عشية كل يوم خميس ليلة الجمعة فلا يقبل عمل قاطع رحم. رواه البخاري وأحمد.
إن قطيعة الرحم من الذنوب التي يعجل الله بها العقوبة؛ بل إنها طليعة الذنوب التي يأخذ أصحابها في الدنيا والآخرة، كما جاء في الحديث الشريف: ما من ذنب أحرى أن يعجل الله بها العقوبة في الدنيا، مع ما يدخر له في الآخرة، من قطيعة الرحم والبغي. رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه.
لقد أعلى الله من شأن الرحم؛ إذ اشتق اسمها من اسمه، فقال:
أنا الرحمن خلقت الرحم واشتققت لها من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته.

* مدير الجامعة القاسمية بالشارقة

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"