أوكرانيا.. بداية تغيير سياسي

04:21 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. محمد فراج أبو النور *

أسفرت نتائج الانتخابات البرلمانية المبكرة عن تغيير جوهري في الخريطة السياسية لذلك البلد الأوروبي الشرقي، الذي أصبح في السنوات الأخيرة مسرحاً للمواجهة بين روسيا و«الناتو» والاتحاد الأوروبي، فبعد أن حقق الرئيس الحالي فلاديمير زيلينسكي فوزاً ساحقاً بنسبة (73%) على الرئيس السابق بوروشينكو- ممثل الاتجاه القومي الموالي للغرب- جاءت الانتخابات البرلمانية المبكرة؛ لتفرز برلماناً منسجماً بصورة كبيرة مع برنامج الرئيس.
الرئيس زيلينسكي دعا إلى التركيز على حل المشكلات الاقتصادية والمعيشية بالغة الصعوبة، التي تعانيها البلاد، وشن حملة واسعة على الفساد، الذي استشرى في عهد بوروشينكو وحلفائه القوميين المتشددين، وهو أيضاً البرنامج الذي يفتح الباب؛ لتسوية النزاع مع الأقلية الناطقة باللغة الروسية في منطقة «الدونباس» جنوب شرقي أوكرانيا، وإنهاء أوضاع المواجهة والتعبئة العسكرية في البلاد، ومن ثم تهدئة المواجهة مع الجارة الكبرى، روسيا، باعتبار ذلك كله يعد سبيلاً لا غنى عنه «لتطبيع» الأوضاع في البلاد، وإعادة بناء الاقتصاد الأوكراني، وتحسين مستوى معيشة الشعب.
وقد حقق حزب «خادم الشعب» الموالي للرئيس زيلينسكي فوزاً كبيراً في الانتخابات؛ بحصوله على (253) مقعداً، تمثل نحو (60%) من مقاعد البرلمان الأوكراني «الرادا» البالغ (424) مقعداً (الأصل في الدستور أن الرادا تكون من 450 مقعداً يتم تقسيمها مناصفة بين القوائم الحزبية والدوائر الفردية بواقع 225 للقوائم، ومثلها للدوائر الفردية.. إلا أن الانتخابات تم تعطيلها في 26 دائرة تمثل القرم والدونباس، لتبقى 199 دائرة فقط، وليكون مجموع المقاعد 224 مقعداً فقط).
وتشير بيانات اللجنة المركزية للانتخابات (25 يوليو/تموز 2019) إلى حصول حزب «خادم الشعب» على نسبة (43.2%) من الأصوات الممنوحة للقوائم الحزبية، تليها قائمة «منصة المعارضة من أجل الحياة» الموصوفة بالولاء لروسيا (13%) ثم حزب «الوطن» بزعامة يوليا تيموشينكو رئيسة الوزراء السابقة (8.2%) تقريباً.. بينما حل حزب «التضامن الأوروبي» بزعامة الرئيس السابق بوروشينكو في المركز الرابع (8.1%).. وحزب «الصوت- جولوس» في المركز الخامس (5.83%)، وهي القوائم الخمس التي تخطت حاجز ال(5%) اللازمة لتمثيل الأحزاب ككتل برلمانية.. بينما فشلت الأحزاب القومية المتطرفة في تخطي ذلك الحاجز، وهو أمر له دلالاته التي تستحق التأمل فيما يتصل بتوجهات الناخبين.. ومما له دلالاته المهمة أيضاً أن حزب الرئيس فاز بنصيب الأسد في الدوائر الفردية، وحصل على (129) مقعداً من المقاعد الفردية- (199) مقعداً - أي بنحو الثلثين.
وقد تعمدنا ذكر هذه التفاصيل؛ لأنها تشير بوضوح إلى التغيير الجوهري الذي تشهده الخريطة السياسية الأوكرانية، والذي جاء انتخاب زيلينسكي بأغلبية ساحقة ليمثل بدايته القوية، ثم جاءت نتائج الانتخابات البرلمانية لتمثل تأكيداً وترسيخاً له. وأهم ملامح هذا التغيير هو التراجع الكبير للاتجاهات القومية الموالية للغرب والمعادية لروسيا بزعامة بوروشينكو وتيموشينكو، وسقوط الاتجاه القومي المتطرف، والبروز الكبير للاتجاه القومي المعتدل المثالي إلى التسوية في الأقاليم الجنوبية الشرقية «الدونباس»، والذي يعيد الاعتبار إلى «اتفاقية مينسك» للتسوية؛ بعد أن كان بوروشينكو قد نبذها عملياً.. وكان يستعد لاستصدار تشريع يقضي بالمضي قدماً في انضمام أوكرانيا ل«ناتو» والاتحاد الأوروبي، ثم جاءت الانتخابات الرئاسية لتقطع الطريق عليه، ويجب أن نلاحظ هنا أن زيلينسكي يركز حديثه على أهمية علاقة أوكرانيا بالاتحاد الأوروبي، خاصة بعد منح الاتحاد لمواطني أوكرانيا حق دخول بلدانه من دون تأشيرة، ما عاد على البلاد بدخل لا بأس به من تمويلات الأيدي العاملة الأوكرانية في البلدان الأوروبية، بينما يتجاهل زيلينسكي مسألة الانضمام إلى «الناتو».
وواضح أن البرلمان الجديد لن يتحرك باتجاهها، كما يجب أن نلاحظ أن زيلينسكي أثناء حملته الانتخابية وبعدها، كان يركز حديثه على التسوية في «الدونباس»، ولا يذكر القرم إلا بصورة عابرة، علماً بأن القرم هي حجر العثرة في المسألة الرئيسية التي يركز عليها الغرب، خاصة الولايات المتحدة، والتي يركز عليها الاتجاه القومي «بوروشينكو مع حلفائه» والاتجاه القومي المتطرف؛ وهي الأساس في فرض العقوبات الاقتصادية الأوروبية على روسيا.
وتمثل كل هذه التوجهات أرضية أكثر مواتاة لوضع حد لحالة المواجهة العسكرية والسياسية التي أنهكت الاقتصاد الأوكراني.
كما تمثل توجهات زيلينسكي و«البرلمان الجديد» أرضية للتهدئة تجاه روسيا، والتفاوض معها حول التسوية في «الدونباس»، علماً بأن الرئيس الأوكراني أعلن مراراً وتكراراً استعداده للقاء بوتين وإحياء المفاوضات في إطار صيغة نورماندي التي تجمع بلاده مع روسيا وألمانيا وفرنسا.
وجدير بالذكر أيضاً أن حصول حزب «منصة المعارضة من أجل الحياة» الموصوفة بموالاتها لروسيا على (13%) من أصوات الناخبين للقوائم، يشير إلى تغير مهم في اتجاهات الرأي العام الأوكراني تجاه روسيا، والداعين إلى تفاهم معها، وهو أمر لم يكن من الممكن تصوره منذ عام أو عامين.
غير أن كل ما ذكرناه لا يعني أن الطريق مفروشة بالورد أمام زيلينسكي وحزبه والبرلمان الجديد، فهناك الضغوط الأمريكية والأوروبية عليهم؛ للاستمرار في السياسات السابقة، وهناك ضعف إقبال الاستثمارات الأجنبية على أوكرانيا في ظل انهيار الاقتصاد وتغلغل الفساد.
ولا يقل عن ذلك أهمية التغلغل لممثلي النخبة القديمة من أجهزة الدولة الأوكرانية العميقة (الجيش والأمن والمخابرات وغيرها من الأجهزة)، والمؤكد أن هؤلاء سيعملون بكافة السبل على إعاقة زيلينسكي وأنصاره عن تنفيذ برامجهم، سواء في مكافحة الفساد أو بناء الاقتصاد أو التهدئة مع روسيا وممثلي (الدونباس).. ومن أقرب الأمثلة على ذلك ما حدث الأسبوع الماضي؛ حيث احتجزت القوات الأوكرانية في بحر أزوف، المتصل بالبحر الأسود عبر مضيق كيرتش (الخميس 25 يوليو) سفينة شحن روسية صغيرة، واقتادتها إلى أحد الموانئ الأوكرانية، وجاء ذلك محاولة للرد على احتجاز القوات الروسية ثلاثة زوارق حربية أوكرانية بطواقمها منذ نوفمبر/تشرين الثاني الماضي (2018)؛ بتهمة انتهاك قواعد الملاحة في مضيق كيرتش والمياه الإقليمية الروسية، وإحالتهم إلى المحاكمة.
وعلى الفور أطلق الجانب الروسي إنذاراً إلى الجانب الأوكراني بأنه يجب أن يفكر جيداً في عواقب هذا التصرف، وفي اليوم التالي مباشرة تم إطلاق سراح طاقم السفينة الروسية الصغيرة (8 بحارة مدنيين) وإعادتهم إلى موسكو، بينما استمر احتجاز سفينة الشحن.
وهذا مجرد مثال لما يمكن أن تفعله أجهزة الدولة الأوكرانية العميقة؛ لوضع العقبات أمام الرئيس والبرلمان الجديد؛ لكن المؤكد أن تيار التغيير في أوكرانيا يكتسب قوة أكبر لكي يشق طريقه بعد انتخاب البرلمان الجديد.

* كاتب ومحلل سياسي. خبير في الشؤون الروسية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"