الشعر يطارد الفيروس

02:15 صباحا
قراءة 7 دقائق

يوسف أبولوز


(1)


طبيعة كتابة الشعر بطيئة، تراكمية، وإذا أردت، هي أقرب إلى التركيب أو إلى شيء من طبيعة الهندسة. إنها طبيعة الكتابة التي تهضم الحدث جيداً، وعلى مدى أوقات طويلة متباعدة أحياناً؛ ذلك أن الشاعر يحتاج إلى ما يُسمى «تخمّر» التجربة أو بكلمة مناسبة أكثر «ركود» التجربة وتصفيتها، تماماً كما تضع ماءً في إناء وتتركه يتصفّى من تلقائه، فتترسب الرمال منه نحو القاع، ثم يأخذ يصفو ويصفو إلى أن يصبح مادة مقبولة أو مستساغة.
ينتظر الشعر، عادة، تلك الظواهر الكونية.. الإنسانية أو النفسية أو الثقافية التي تنتج عن الأحداث أو التجارب التي هي موضوع الكتابة، فالحدث أو التجربة.. «حرب مثلاً، أو وباء، أو كارثة طبيعية أو تحوّل تاريخي سياسي اجتماعي مفصلي» هي أمور مرئية عند وقوعها للشاعر وغير الشاعر، هي موضوعات حديثة عامّة بالنسبة للسياسي والإعلامي والأكاديمي والمؤرّخ والباحث وعالم الاقتصاد والسياسة والاجتماع، وكل واحد منهم له توصيفه للحدث، وله رؤيته الخاصّة في قراءته وفي تحليله، استناداً إلى تخصصه وثقافة هذا التخصص.. ما عدا الشاعر الذي يبدأ فور وقوع الحدث بعمل ما يشبه الورشة الضخمة في ذاكرته، وفي أرشيفه المادي اليومي.
يجمع الشاعر كل ما يمكن أن يخدم نصّه الشعري، أو يخدم كتابته سواءً أكانت قصيدة، أم نصّاً نثرياً أم كانت تأملات، أم يوميات، أم مذكرات.. إنه الجمع اليومي الذي يعقبه الطرح اليومي، أيضاً، بعد ذلك، فليس كل ما يجمع من معلومات وصور ووثائق يصلح للشعر، هناك ما يصلح للرواية في هذا السياق أكثر مما يصلح للشعر، فنحن نتحدث هنا عن الكتابة بشكل عام، كتابة الشاعر وكتابة الروائي، الكتابة التي يشترك فيها أو يتقاطع فيها الشاعر مع الروائي في قلب أحداث وتجارب يمكن أن تغيّر وجه البشرية، ولعلّ المثال الحيّ تماماً، وربما الأول تماماً، هو النصّ الذي كتبه قبل أيام الروائي السعودي عبده خال بعنوان: «صوت الحمّى المتوحشة»؛ وذلك في ضوء وباء «كورونا»، ويصف فيه مدينة جدّة في مثل هذا الظرف، وسوف نعود إلى هذا النص ونص آخر، ومرة ثانية لم تنتج «كورونا» ظواهرها الثقافية والاجتماعية والسياسية وغير ذلك من تحوّلات وحسب؛ لكنها أنتجت أيضا نصوصاً إبداعية.. غير أن مثل هذه الكتابة التي يتولّاها الآن بشكل خاص شعراء وروئيوان أو قصصيون هي كتابة أشبه بكتابة اليوميات، وفي وجه آخر هي كتابة الخوف، وفي وجه ثالث هي كتابة الانتصار الفردي على العزلة القسرية، فعزلة المرض ليست عزلة إرادية بالمرّة، والعزلة الإرادية هي عزلة الكتابة الحرّة.
قلت قبل قليل إن الشاعر، وأضيف أيضاً الناثر.. يقوم بجمع كل مادة يقع عليها في قلب الحدث أو الأحداث المفصلية الفارقة في تاريخ الشعوب والأمم، ومن هذه المواد.. الحكايات.
في الحروب، وفي الأوبئة وفي الوقائع الكبرى عبر التاريخ، تكثر القصص والحكايات. وفي حالة «كورونا» العالمية اليوم، صرنا نشاهد هذه القصص وهذه الحكايات ولا نقرأها فحسب. إن القصة الإنسانية في وباء الكورونا صارت مشهداً أو صارت صورة، ولم تعد في حاجة إلى سرد أو إلى قول.. إلاّ إذا وردت في القصة الخبرية الصحفية، وحتى في الصحيفة هناك صورة للقصة أو هناك صورة للحكاية.
إنه لأمر مريح للشاعر أو للروائي إذا أراد أن يجمع صور القصص والحكايات، ويدعمها بالقصص الخبرية الصحفية؛ حيث مادّته متاحة وغزيرة، بإمكانه أن يجمع ما يمكنه الجمع، وبإمكانه أن يطرح ما يمكنه الطرح.
لقد امتلأت شرفات البيوت في العديد من مدن العالم بالبشر والأغاني والكمنجات. أصبح الغناء صورة يومية عالقة في ستائر النوافذ، وهي صورة شعرية بامتياز، وهي أيضاً صورة روائية، أما الحجر في حدّ ذاته فهو «سرد» صامت إن جازت العبارة، وكذلك العزلة التي هي «موضوع المواضيع» الآن بالنسبة إلى الكثير من الكتّاب والكاتبات.. أما عادات الكتابة فستكون هناك عادات جديدة بالطبع، إذا كان الشاعر أو الروائي لا يكتب أحدهما في البيت، أو أنه من كتبة المقاهي، وهذه تفصيلة بعيدة نوعاً ما عن الهاجس الذي نبحث عنه الآن.. هاجس الكتابة في زمن كورونا. وهاجس الكتابة في الزمن التالي لكورونا.الكتابة أو كتابة (ما بعد كورونا) تبدأ عادة بإرهاصات أولية، شأنها شأن الكتابات التي تنتظر ما يمكن أن يُسمى «حضانة» الحدث، وإسقاط أية هالة تراجيدية حوله..
نعم الكتابة عن محنة سياسية أو مرضية أو تاريخية أو اجتماعية؛ تتطلب أولاً الإلغاء التام لصورة الوضع البشري المأساوي الذي تنتجه، وإلاّ فإن هذه الكتابة تسمّى بشكل عارٍ.. «كتابة الخوف».. فهل الكتابة في ذروة تغوّل وتوحش كورونا، مثلاً، تختلف عن الكتابة في حالة الانتصار على المرض والقضاء عليه؟.. نعم ثمة فرق..
في الحالة الأولى، نكتب تحت وطأة القلق والخوف كأننا نداور الوباء من بعيد غير مقتربين من ضحاياه، وفي الحالة الثانية نكتب وقد تخلّصنا من عقدة الحجر وعقدة الفيروس، وقد تحررنا كلياً من الخوف.
هذه نقطة مهمة، يتوجب الانتباه إليها أثناء الكتابة التي تتحول إلى نوع من الخلاص في الحالين.. حال الكتابة في ذروة فتك الفيروس حتى بنفسه، وفي حال الكتابة في التخلّص الكلي من هذه الكارثة الأممية.
بقيت الإشارة، هنا، إلى نوع من الكتابة من حسن الحظ أنه لم يقم أحد بادعائه إلى الآن، فما من كاتب عربي أو غير عربي زعم أنه تنبّأ بكورونا فكتب عن الوباء قبل انتشاره.
لا أحد يمكنه أن يزعم هذا الزعم، وبالطبع، نشير هنا إلى رواية «عيون الظلام» للأمريكي دين كونتز وصدرت في 1981، وتتحدث قبل ما يقرب من 40 عاماً عن مختبر عسكري صيني في مدينة ووهان التي اكتشفت فيها أول إصابات كورونا، وقد أنتج ذلك المختبر فيروساً غامضاً من شأنه أن يصيب الجهاز التنفسي.. غير أن هذه الرواية، وعلى الرغم من كل القرائن الموجودة فيها والتي تشير إلى وباء الكورونا إلاّ أنها كما يبدو من تاريخ صدورها ومن موضوعها هي أقرب إلى الخيال العلمي، وليست رواية توقعية أو تنبوئية، فضلاً عن الوقت الطويل الذي يفصل بين زمن الرواية وزمن الوباء.


(2)


هل ثمة من كتابة قادمة.. شعراً أو رواية أساسها هذا الوباء؟ نعم. هناك كتابة قادمة، وهي بالضرورة كتابة إنسانية كونية؟ فالوباء لم يترك قارّة إلاّ وعبرها، ولم يترك حضارة إلاّ وهدّدها، ولم يترك البشرية في هدأتها النسبية على الأقل؛ بل إن الفيروس قد جعل الكتابة.. كتابة عالمية. ولا أظن أن كاتباً عربياً عندما يضع رواية حول الوباء، سيتجاهل الإنسان الآخر المصاب في الصين أو في إيطاليا أو في أمريكا أو في اليابان.
الكتابة القادمة كتابة روائية، وشعرية ذات طابع أممي إنساني، ولن تكون كتابة أدبية مغلقة على بلد أو قارّة أو إقليم، ذلك أن الوباء يكون قد مرّ على مدن وقارّات وأقاليم وحضارات وشعوب بكارثية واحدة، وبغزو واحد، غزو منظم لا يفرّق بين أسود أو أبيض، ولا غربي، أو شرقي، أو مسلم أو مسيحي أو عالم صناعي، وآخر زراعي، وثالث رأسمالي ورابع اشتراكي. غزو فيروسي يلغي الحدود والطائفيات والإثنيات والعنصريات.
من هذه الاعتبارات معاً تتوحّد الكتابة «الوبائية» الإنسانية الواحدة، وبالطبع، هذا لا يعني أننا سنكون أمام نص تراجيدي ملحمي كما لو يكتبه شاعر واحد، أو روائي واحد؛ بل ستنتج البشرية ملحمياتها الجديدة بلغات عدة، ومعالجات درامية مختلفة.


(3)


يكتب عبده خال على وقع مدينة جدّة والليل. إنه يراها كما للمرة الأولى منذ أن عرفها وهو طفل لم يكن يرى فيها إلا كل ما هو رائع وطفولي، يقول: «.. البارحة فقط أغلقت مدينة جدّة منافذها، وتغطّت بعباءة سوداء اسمها الليل، اكتفت بمن فيها، وحملت صندوق الذكريات لتسد بها مسامات الهلع النابت مع نبضات القلوب.. البارحة ولأول مرة.. في التاريخ تقتعد تلك المراهقة عرصات تمددت جدرانها طولاً وعرضاً وجهّزت فرشاتها من غير غطاء، واقتعدت تراقب حُمى تطوف العالم راغبة في قطف الأنفس..».
النصّ الذي كتبه عبده خال، وهو أحد روائيي البوكر العربية، يجمع بين العودة إلى صورة الطفل في مدينة تحمل كل إشارات الحميمية والمكانية الطفولية، وما هو طارئ على هذا المكان الحميم.. إنها الحمى التي أخذت بهجة الغزل من مدينة لا تشيخ.. «.. وهي مدينة لا تعرف شيئاً سوى الحبور، لذا، تظل في حالة غزل لأي عين متلهّفة لكلمة حب، أو لقلب عاشق أضناه الهيام، فحام بفضائها يشكو لوعة وجده.. فلا تبخل عليه.. وتسكنه المهج..»
هل هذا النص حول جدّة، وحمّى الفيروس، بأطيافه «الوجدية» هذه.. وقد جاء في نحو 1300 كلمة، هو فاتحة لنص روائي بطولة المكان فيه تعود إلى جدة؟؟ هو سؤال في صميم هواجس هذه المادة التي تتساءل عن ملامح الكتابة القادمة، ولعلّ ملمح جدة هذا وأطياف حمّاها والشغف بها هو شكل من أشكال الكتابة القادمة.
الشاعر الأردني د. راشد عيسى التقط صورة يومية تحوّلت إلى سلوك احترازي يتمثل في التعامل عن بُعد، المصافحة بالإشارة عن بُعد، بلا ملامسة وبلا مخالطة، فكتب قصيدة أعطاها عنواناً متداولاً.. «لا تصافح يدي»..
«صديقي وجاري /‏ وزائر داري /‏ لأني أحبك أكثر من نحلة ترتجي زهرة الياسمين /‏ فأجل يدك.. لا تصافح يدي..».
إلى أن ينهي قصيدته بجملة تفاؤلية تتلائم تماماً مع الروح التي يتوجب أن يكتب بها كل من هو في محيط هذا الوباء الخبيث.. يقول:» سنبقى بخير.. /‏ وتبقى البلاد بخير /‏ ويرحل عنّا كورونا..».


إيقاع درامي


نقول مع كل مؤشرات حاضرنا الكوروني الذي يتوسع بإيقاع درامي يومي فإن ثمة ملحميات جديدة ستكتب فردياً أو جماعياً في ما بعد انتهاء الوباء وربما خلاله. سيعود زمن الأوديسة، والإلياذة، والأسطوريات العشتارية، والملاحم الشرقية والأوروبية بتراجيديات كتابية تأخذ في التكوّن على شكل دوائر تبدأ صغيرة، ثم تأخذ في الاتساع، والاتساع إلى أن تحيط بالعالم.
منذ الآن، إن العالم يُنتج ببطء، وغموض وصمت شعراءه الجدد، وروائييه، وكتّابه، وفنّانيه، وموسيقييه، وأيضاً مفكريه، وفلاسفته، ومنظّريه.. ومن سوف ينجو من هذه المحنة الكونية المرعبة سيكون شاهد عيان على عالم كبير كاد يلتهمه مجرد فيروس صغير.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"