بريطانيا والولايات المتحدة.. أزمة عابرة

03:41 صباحا
قراءة 5 دقائق
د.إكرام بدر الدين*

تميزت العلاقات بين المملكة المتحدة، والولايات المتحدة، بالخصوصية، خاصة بعد ضعف القوة العسكرية والسياسية البريطانية، وظهور الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى، ما دفع بريطانيا لتقوية علاقاتها بالولايات المتحدة، كي تستمر في التأثير في مجريات الأحداث الدولية من خلال تلك العلاقة.
من ناحية الولايات المتحدة الأمريكية، فالمملكة المتحدة كانت بالنسبة إليها الحليف الذي يساندها في كل قراراتها، ومواقفها المتعلقة بالسياسة الخارجية، كما أن المملكة المتحدة تمثل وسيطاً دبلوماسياً بين الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، كما تعتبر شريكاً أيديولوجياً قوياً ساند الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي، وهذه العلاقة كانت تصل أحياناً إلى أن يتحول رئيس الوزراء البريطاني في نظر الكثيرين لمجرد تابع. فعلى سبيل المثال، كانت علاقة رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، بالرئيس الأمريكي جورج بوش، علاقة قوية حظيت بالإطراء والقبول في الولايات المتحدة، لكنها أثارت غضب الكثير من البريطانيين الذين كانوا ينظرون إلى بلير على أنه مجرد ذيل لجورج بوش، وأنه يعمل على تحقيق المصالح الأمريكية، حتى إن كان ذلك على حساب المصالح البريطانية.
وعلى الرغم من أن الكثير من أعضاء الكونجرس يرون أن المملكة المتحدة هي الصديق الأقرب، والحليف الأكثر ثقة للولايات المتحدة، إلا أن بعضاً من أعضاء مجلس العموم البريطاني يرون أن هذه العلاقة يجب أن تكون قائمة على المصلحة القومية البريطانية، وأن على بريطانيا أن تقف أمام الولايات المتحدة وتعارضها في الأمور التي لا تحقق مصالحها.
وشهدت هذه العلاقة عبر فترات زمنية عدة بعض التوترات، فعلى سبيل، المثال أثار تردد الولايات المتحدة في دخول الحرب العالمية الثانية إلى جانب بريطانيا غضب الأخيرة التي كانت تحاول الدفاع عن أراضيها أمام هتلر، كما شهدت هذه العلاقات توتراً ملحوظاً خلال أزمة قناة السويس عام 1956، عندما انضمت بريطانيا إلى كل من فرنسا، و«إسرائيل»، في العدوان الثلاثي على مصر، وفشل المهاجمون في إقناع الولايات المتحدة بالانضمام إليهم في هذه الحرب، بل وقامت الولايات المتحدة بجهود دبلوماسية من خلال الأمم المتحدة لإيقاف هذه الحرب، وشهدت العلاقة بعد حرب احتلال العراق بعضاً من التوتر نتيجة قيام الجنرال جاكسون، قائد القوات البريطانية المشاركة في غزو العراق، بانتقاد قرار «البنتاجون» حل الجيش العراقي، كما انتقد بعض القادة العسكريين نظراءهم الأمريكان انتقاداً لاذعاً لكونهم يسرعون باستخدام القوة، ويتسببون بوقوع الخسائر البشرية بين المدنيين، والخسائر بين قوات التحالف نتيجة النيران الصديقة، وفي المقابل، وجه مستشارو الرئيس بوش الابن انتقادات لاذعة لبريطانيا، واتهموها بأنها تسببت بانتشار الفوضى في جنوب العراق.
وجاء التوتر الأخير في هذه العلاقة نتيجة لتصريحات السفير البريطاني في الولايات المتحدة، السير كيم داروتش، الذي تم تسريب برقياته السرية المرسلة للحكومة البريطانية، والتي تحدث فيها عن الأوضاع في واشنطن، وعن الرئيس الأمريكي ترامب، وجاء في هذه البرقيات التي قامت بنشرها صحيفة «الدايلي ميل»، قول السفير داروتش إن الرئيس ترامب «غير كفء، وغير مؤهل للحكم»، وإن الصراعات داخل واشنطن تشبه القتال بالسكاكين، وإن فترة حكم ترامب الرئاسية قد تنتهي بالعار«، كما تساءل السفير في برقية أخرى عن صحة قول ترامب إنه انسحب في آخر دقيقة من توجيه ضربة انتقامية لطهران، بعد قيام الأخيرة بإسقاط طائرة أمريكية من دون طيار، وذلك لأن مستشاريه قد أخبروه في آخر لحظة أن الضربات الجوية قد تؤدي لمقتل 150 إيرانياً، وأدت هذه التصريحات إلى قيام الولايات المتحدة بإلغاء المحادثات التجارية المتعلقة بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست) التي كان مقرراً إجراؤها بين وزير التجارة البريطاني ليام توكس، ونظيره الأمريكي يلبر روس، كما وصف الرئيس ترامب السفير البريطاني بأنه»رجل غبي«، و»أن التعامل معه لم يعد ممكناً«، ما دفع السفير لتقديم استقالته، كما هاجم ترامب رئيسة الوزراء البريطانية، تريزا ماي، ما يدل على ارتفاع حدة التوتر بين الجانبين، خاصة بعدما رفض وزير الخارجية البريطاني، جيرمي هانت، هذه التعليقات، ووصفها بأنها»مهينة، وخاطئة«.
وأدى هذا التوتر الأخير إلى التساؤل عن مستقبل العلاقة بين المملكة المتحدة وبين الولايات المتحدة. وهل سيؤدي هذا التوتر الأخير إلى إضعافها؟ والإجابة على الأرجح بالنفي، وأن العلاقة بين البلدين لن تتأثر كثيراً بهذه الحادثة، خاصة، كما سبق الذكر، أن هذه العلاقة كانت تشهد كثيراً بعض التوترات، لكن كان يتم التغلب عليها، للأسباب التالية:
1- الأسباب السياسية، فالعلاقة الخاصة مع الولايات المتحدة هي حجر الزاوية في السياسة الخارجية البريطانية منذ عام 1940، كما أن الدعم البريطاني للسياسة الخارجية الأمريكية يعطي هذه السياسة نوعاً من المصداقية الدولية، وهذه العلاقة الوثيقة كثيراً ما خدمت مصالح البلدين في المحافل الدولية (كالأمم المتحدة، وفي حلف ناتو)، كما أن الولايات المتحدة هي أقوى الداعمين لسياسة»بريكست»، والمملكة المتحدة تعتمد على هذا الدعم في التخطيط لمرحلة ما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وأن هذه العلاقة ستوفر الاستقرار لها.
2- الأسباب الأمنية والدفاعية، حيث ترتبط كل من الولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة المتحدة، بعلاقات دفاع وثيقة، وشراكة قوية في مجال الاستخبارات، وينظر عادة واضع السياسات العسكرية الأمريكية إلى القوات المسلحة البريطانية على أنها القوات الأكثر تدريباً واستعداداً من بين حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين.
وهناك تنسيق كامل بين البلدين في بعض القضايا، مثل استخدام القوة، وتطوير القدرات العسكرية، ودور حلف ناتو، كما أن القوات البريطانية دائماً تكون في طليعة القوات العسكرية التي تنضم للتحالفات العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية، كما أن كلا البلدين شريك أساسي في صناعة السلاح ومبيعاته، ولديهما أكثر من 20 برنامجاً دفاعياً مشتركاً لتطوير بعض المعدات.
3- الأسباب المتعلقة بمواجهة الإرهاب، وهي القضية الأساسية التي تثير اهتمام صانع السياسة البريطانية، خاصة مع تزايد الأحداث الإرهابية التي تشهدها المملكة المتحدة، وهذا يجعل التعاون الاستخباراتي وبرامج مكافحة الإرهاب بين البلدين مهمة لكليهما.
تضاف لكل ما سبق، العلاقات الاقتصادية بين البلدين التي تلعب دوراً مهماً في توطيد هذه العلاقة، فلقد بلغت الاستثمارات المباشرة الأمريكية في بريطانيا ما يقارب 682.4 مليار دولار، كما أن بريطانيا تأتي في المرتبة السابعة لشركاء الولايات المتحدة التجاريين، فلقد بلغت صادرات الولايات المتحدة لبريطانيا عام 2017 ما يقارب 56.3 مليار دولار، كما كانت وارداتها من المملكة المتحدة تقارب 53 ملياراً.
ويمكن القول أخيراً، إن العوامل التي تربط بين الولايات المتحدة وبريطانيا تظل أقوى من عوامل الاختلاف المترتبة على هذا التوتر الأخير.

* أستاذ العلوم السياسية-جامعة القاهرة

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"